الرئيسية / مقالات / مسمى اﻹيمان ومسمى الكفر عند أهل السنة والجماعة

مسمى اﻹيمان ومسمى الكفر عند أهل السنة والجماعة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد الأمين وآله الطيبين وصحبه الغر الميامين.

تعريف اﻹيمان:

اﻹيمان لغة: لقد كان هذا الموضوع من أول المواضيع التي أثيرت بين المسلمين، وكان من أدق المواضيع، وقد كان مذهب أهل السنة والجماعة وأئمة اﻷمة من الصحابة والتابعين ومن سلك مسلكهم من أصحاب الحديث وفقهاء اﻷثر واضحا في مسمى اﻹيمان وفي مسمى الكفر، مخالفين لغيرهم من الفرق الخارجة عن جماعة المسلمين.

ونبين بعض المسائل التي وقع فيها الخلاف في موضوع اﻹيمان والكفر وأن مذهب أهل السنة والجماعة هي الحق المبين وأن أصحاب الحديث وفقهاء الأثر هم من ورثوا هذا المذهب الحق عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان:

وسنذكر بتوفيق الله أوجه الخلاف بين أهل الحق ومن خالفهم من أصحاب البدع والأهواء، لأن معرفة الأصول التي انبنى عليها مسمى الإيمان ومسمى الكفر تبين بجلاء مسائل الخلاف.

أولا: اﻹيمان المطلق ومطلق اﻻيمان:

فأهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث وفقهاء الأثر وأئمة الفتوى وعلماء اﻷمصار ممن سلكوا مذهب الصحابة والتابعين ونهجوا فهم السلف الصالح ممن هداهم ﷲ إلى الصراط المستقيم هم الذين يقولون في باب مسمى اﻹيمان والكفر أن اﻹيمان قول وعمل والكفر قول وعمل، واﻹيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وﻻ يزول إﻻ بالكفر أو الشرك أو استحلال الكبائر أو ما إلى ذلك من الكفر البواح كالجحود والتكذيب واﻹباء واﻻستكبار والعناد أو النفاق اﻷكبر أو الشك أو اﻹْعراض واﻻستهزاء واﻻعتراض أو ما يخالف اﻹيمان من جميع الوجوه كتمزيق المصحف أو السجود لصنم، وﻻ عذر ﻷحد في شيء من ذلك إﻻ المكره اﻹكراه الملجئ.

أما المعاصي والكبائر فلا يزول اﻹيمان بشيء من ذلك مهما عظمت ما لم تكن استحلاﻻ، فعفو ﷲ أعظم ومغفرته أكبر ورحمته أوسع.

أما احتجاج الخوارج والمعتزلة على أهل السنة والجماعة بقول النبي عليه الصلاة والسلام: «ﻻ يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وﻻ يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن وﻻ يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن وﻻ ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم وهو مؤمن»، فيقول الخوارج والمعتزلة أن الحديث ينفي أصل اﻹيمان عن أصحاب الكبائر.

يقول أهل السنة والجماعة أن المنفي هنا هو مطلق الإيمان ﻻ الإيمان المطلق بناءً على أصلهم أن اﻹيمان يزيد وينقص ويتبعض ويتجزأ، وأن اﻹيمان المطلق هو اﻹيمان الكامل، فهذا لا ينفى عن عصاة المسلمين، أما مطلق اﻹيمان فهو ينفى عن العصاة والمذنبين، بل قد ينقص كثيرا حتى يصير كمثقال الذرة وهي أصل اﻹيمان وتنفع صاحبها يوما من الدهر.

ومن ثم، فالخلاف بين أهل السنة والجماعة مع الخوارج والمعتزلة من جهة أنهم ﻻ يكفرون بالكبيرة إﻻ إذا استحلها صاحبها، وخلافهم مع المرجئة أنهم يرون أن ما يناقض اﻹيمان مناقضة تامة سواء في القلب أو اللسان أو الجوارح فكل واحدة أصل مستقل بذاته فقد يكفر الإنسان في قلبه وقد يكفر في لسانه وقد يكفر في جوارحه إذا أتى ناقضا من نواقض الإيمان، فمن لم يصدق بقلبه فهو كافر ومن صدق بقلبه ولكنه يبغض الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا من عمل القلب فهو كافر، ومن سب بلسانه الرسول عليه الصلاة والسلام وإن كان يصدقه أنه نبي وكان يحبه في قلبه إلا أنه كفر بلسانه ولم ينفعه تصديقه ولا محبته، ومن سجد لصنم أو مزق مصحفا أو قاتل نبيا فهو كافر فلا ينفعه تصديقه بقلبه ولا محبته في فؤاده ولا تصريحه بلسانه بنبوته لأن هذا العمل مكفر بمجرده وهذا معنى أن الإيمان قول وعمل وأن الكفر قول وعمل.

ومن مظاهر اﻻختلاف بين أهل السنة والجماعة والمعتزلة في مسمى اﻹيمان والكفر أن أهل السنة يقولون “العلاقة بين اﻹيمان والكفر علاقة تناقض، فإما أن يكون الرجل مسلما، وإما أن يكون كافرا”، أما المعتزلة فيقولون أن “العلاقة بين اﻹيمان والكفر علاقة تضاد بمعنى أن اﻹيمان والكفر كالسواد والبياض، وهما متضادان”، بمعنى قد يكون هناك لون آخر، ومقصدهم حسب أصولهم هو المنزلة بين المنزلتين، أما التناقض فلا يجوز أن يكون إﻻ أحدهما، وإذا أطلق علماء السنة كلمة التضاد بين اﻹيمان والكفر فمرادهم التناقض ويحمل كلام الرجل على أصوله.

فمسألة الإيمان المطلق ومطلق الإيمان عند أهل السنة والجماعة استطاعوا الجمع فيها بين النصوص ولم يحصل عندهم تعطيل أو تحريف للأدلة والبراهين، وهذا كالأمر المطلق ومطلق الأمر، فنفي الإيمان إذا جاء في غير النواقض فالمراد به نفي الكمال وإذا جاء النفي فيما يناقض الإيمان فهو نفي الأصل لكن الخوارج والمعتزلة يعتبرون كل نفي جاء للإيمان فهو نفي لأصله، وقد ترتب عن هذا القول بالإيمان المطلق ومطلق الإيمان الإعتقاد بتجزء الإيمان وتبعضه عند أهل السنة والجماعة.

ثانيا: هل اﻹيمان يتجزأ ويتبعض أم ﻻ؟

ذهب الخوارج والمعتزلة ومن سار على طريقهم من الغلاة من جهة إلى أن اﻻيمان كلٌّ ﻻ يتجزأ وﻻ يتبعض، فإذا زال شيء من اﻹيمان زال اﻹيمان كله، وقابلهم المرجئة ومن سلك مسلكهم من الجفاة من جهة أخرى إلى أن اﻹيمان كلﱞ ﻻ يتجزأ، فلا يذهب اﻹيمان إطﻼقا مهما بلغت أعمال العباد إلا بالتكذيب والجحود فقط لأن التصديق عندهم هو الإيمان فكان بدهيا أن يكون الكفر عندهم هو التكذيب والجحود.

فَسِرُّ انحراف الفريقين من الغلاة والجفاة اعتقادهم أن اﻹيمان ﻻ يتجزأ ولا يتبعض وبالتالي فهو ﻻ يزيد وﻻ ينقص، فهو إما إيمان ﻻ كفر معه، أو كفر ﻻ إيمان معه ومن ثم فقد كفر الخوارج بالكبائر وشهد المرجئة بإسلام من كفر بجوارحه إذا أتى ناقضا من النواقض حتى يصاحبها التكذيب والجحود.

أما أهل السنة والجماعة فعصمهم ﷲ من بدعة الغلاة والجفاة وقد انفردوا بذلك عن غيرهم فنفعهم الله بذلك نفعا كبيرا، وهو اعتقادهم أن اﻹيمان يتجزأ ويتبعض وبالتالي فهو يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ولا يزول بالمرة إلا بنواقض الإيمان والمكفرات القطعية.

واﻹيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح، وما كان أصلا من أصول الإيمان فبزواله يزول أصل الإيمان سواء بالقلب أو اللسان أو الجوارح، وما لم يكن أصلا من أصول الإيمان فلا يؤثر زواله في زوال الإيمان وإنما ينقص الإيمان بقدر ما يقع فيه العبد من الكبائر والموبقات والمعاصي والمخالفات، وأن المسلم الموحد الذي وقع في الكبائر وأتي الموبقات من غير استحلال يبقى مسلما، لكن إيمانه يكون ناقصا على قدر مخالفاته الشرعية، فلا يزول إﻻ بالكفر أو الشرك.

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء: 48).

فعندما يستدل المرجئة بنصوص الوعد كاستدﻻلهم بقوله صلى ﷲ عليه وسلم: «من قال ﻻ إله اﻻ ﷲ دخل الجنة» يقول أهل الحديث وفقهاء اﻷثر أن العمل من مسمى اﻹيمان وﻻ يجوز بحال أن يخرج العمل من مسمى اﻹيمان وإﻻ وقعنا في بدعة اﻹرجاء والتجهم، فلا إله إلا الله أصل التوحيد وهي عقيدة في القلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح ولا يجوز بحال أن يخل المرء بشروطها أو أن يأتي ناقضا من نواقضها، فكل ما استدل به المرجئة من نصوص كحديث البطاقة وغيرها فالجواب عنه أن كلمة الإخلاص هي تصديق بالقلب وعمل بالقلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح وإلا ستنفع صاحبها ولو كان مبغضا للرسول صلى الله عليه وسلم أو طاعنا فيه باللسان أو مقاتلا له بالجوارح وكل هذا من النواقض المبطلة للتوحيد، فدل ذلك على أن الإقتصار على اللسان وحده غير كاف حتى يصاحب بقول القلب وعمل القلب وعمل الجوارح بحيث لو أتى ناقضا واحدا في هذه الأمور لكفر كفرا أكبر يخرج به عن ملة التوحيد.

فالنصوص التي يستدل بها الخوارج والمعتزلة في نفي الإيمان مما لا تكون تلك الأعمال من النواقض فهو نفي لكماله لا لأصله جمعا بين النصوص الشرعية وحفاظا على القواعد والأصول، فكل كبيرة من الكبائر من اﻻخلال بالواجبات والوقوع في المحرمات عند الخوارج وأمثالهم محبطة للإيمان، ويكون العبد بذلك كافرا عند الخوارج، وفي المنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة وفاعل الكبيرة عندهم مخلد في النار، وهذا باطل شرعا لأنه ينافي الأحاديث الصحيحة وأقوال أئمة السلف، ويناقض القواعد الرصينة والأصول المتينة، فالإيمان الذي يحصل بيقين لا يمكن أن يزول إلا بيقين، فكل مسلم شهد لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة صلى الله عليه وسلم لا يجوز بحال إخراجه من الإسلام إلا بناقض من نواقض التوحيد، والكبائر قطعا ليست من نواقض التوحيد وإلا لما أقام فيها النبي صلى الله عليه وسلم الحد كشرب الخمر مثلا ولو كانت كفرا لأقام فيها حد القتل وكذلك الزاني إذا جلد كالعازب مثلا فلو كان الزنا كفرا لأقام عليه حد القتل وكيف وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على العصاة والمذنبين ودعا لهم واستغفر لهم وهذا متواتر في سنته الصحيحة وسيرته العطرة مما يبطل قواعد الخوارج والمعتزلة من أساسها.

والسبب الذي أوقع المرجئة في هذه البدعة الغليظة اعتبارهم أن الإيمان هو التصديق فقط، والعبد مادام مصدقا فهو مؤمن ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة ولهذا فتصديق أفجر الفجار كتصديق أبي بكر وعمر بل كإيمان جبريل وميكائيل، والإيمان ليس هو التصديق فقط بل هو الإقرار والإذعان والنطق باللسان وعمل القلب وعمل الجوارح، ولهذا فهو يتفاضل بين الخلق ويزيد وينقص، فترتب عن هذا الأصل الفاسد من عدم الإعتقاد أن الإيمان يتبعض ويتجزأ فساد عريض غلا فيه الخوارج والمعتزلة وجفا فيه المرجئة والجهمية، فلو قال الطرفان من الغلاة والجفاة بالإيمان المطلق ومطلق الإيمان لحلت لهم العقد ولتبين لهم وجه الحق واستطاعوا الجمع بين النصوص، كما لو أنهم اعتقدوا أن الإيمان يتجزأ ويتبعض لما خالفوا النصوص القطعية والحجج المتواترة وسلكوا مذهب سلف الأمة وأئمتها وأزالوا عنهم وصف أهل البدع والأهواء.

ثالثا: الإيمان قول وعمل والكفر قول وعمل

الإيمان قول وعمل أي قول القلب وقول اللسان وعمل أي عمل القلب وعمل الجوارح، والكفر قول وعمل أي قول القلب وقول اللسان وعمل أي عمل القلب وعمل الجوارح.

وكل واحدة من هؤلاء أصل مستقل، فلو وقع خلل في واحدة من هؤلاء لوقع نقض للإسلام وهدم للإيمان، بخلاف المرجئة الذين يعتقدون أن الإيمان هو التصديق وإقرار اللسان بالشهادتين ولا علاقة للعمل بمسمى الإيمان، كما أن الخوارج والمعتزلة وإن كانوا يقولون أن الإيمان قول وعمل فهو عندهم شرط صحة في الإيمان بيد أنه شرط كمال عند المرجئة.

أما أهل السنة والجماعة فهم يعتبرون أن العمل من مسمى الإيمان وهذه هي عباراتهم الشرعية أي لا ينفك عنه ويجيبون أهل البدع بقولهم هو شرط صحة باعتبار وشرط كمال باعتبار، لأن العمل من مسمى الإيمان.

أما قول القلب فهو التصديق الجازم بالوحدانية والنبوة والكتاب المنزل وما إلى ذلك من أصول الإيمان، وأما عمل القلب فهو الإنقياد والخضوع والإستسلام والحب والخوف والرجاء وأن يتجنب القلب كل النواقض كحسد الأنبياء وبغضهم والنفور من الكتاب المنزل والإستهانة بالشريعة واحتقار ما عظمه الله ورسوله فهذه الأعمال القلبية من نواقض الإيمان وإن صاحبها التصديق فلا يعول عليه، بل لو كانت واحدة من هذه الأعمال لا انتقض إيمان المرء مع وجود أعمال قلبية أخرى مشروعة، مثال ذلك لو قال المرء لوالده إنني موقن أنك والدي لكنني أبغضك وأكرهك، فلا قيمة لاعترافه بأبوته مادام لم يعرف حقها، وأما قول اللسان فهو الشهادة لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة والاعتراف بالكتاب المنزل والقول بتعظيم الشرع وأن يجتنب اللسان كل النواقض كسب الله ورسوله والطعن في شريعته وقول الباطل الأكبر الذي هو الكفر الصراح وإذا حصل شيء من ذلك فقد وقع المرء في نواقض الإيمان ولا ينفعه تصديق بالقلب ولا عمل القلب ولا عمل الجوارح بل ولا الأقوال الصحيحة إذا وقع في كلمة واحدة مكفرة إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، وأما عمل الجوارح فكل ما له صلة بالإيمان والتوحيد يجب الإتيان به مع اجتناب الأعمال الكفرية المجردة كالسجود للصنم وتمزيق المصحف والدخول مع الكفار إلى كنائسهم ومعابدهم في أعيادهم وغيرها أو أن يلبس المرء لباسهم الديني الخاص بالأحبار والرهبان كالزنار والصليب وما إلى ذلك فهذه الأعمال الكفرية هي كفر مجرد بذاته ولو ادعى صاحبه بطلان ذلك لأنه قد أتى أمرا كفريا مجردا فلا ينفعه تصديق القلب ولا عمل القلب ولا قول اللسان، فالذي يتولى الذبح لغير الله وهو غير مكره فلا ينفعه أنه يقول أن هذا الفعل باطل، كما أن سدنة القبور والذين يقومون بخدمة الأضرحة والقيام عليها لا ينفعهم دعواهم أن هذه الأمور باطلة فهي دعوى كاذبة وقد أتى عملا كفريا مجردا وكونه فعل ذلك فهو استحلال منه بالفعل المجرد فلا يحتاج إلى قول القلب ولا إلى عمل القلب للحكم عليه بالكفر الأكبر أو الشرك الأعظم، بخلاف المعاصي والكبائر والموبقات فهذه ذنوب لا يكفر صاحبها إلا باستحلالها، فالخلط بين الأعمال الكفرية والأفعال الشركية بالذنوب والمعاصي واشتراط الاستحلال لكل ذلك هذه بدعة إرجائية مخالفة للحق الذي بعث الله به نبيه الكريم ورسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، كما أن إدخال المعاصي والكبائر والموبقات التي هي ذنوب في الأعمال الكفرية المجردة فهذه بدعة الخوارج المارقين والمعتزلة المبطلين.

إذا فعقيدة السلف أن الإيمان قول وعمل قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح، وأن كل أصل من هذه الأصول مستقل بذاته فلو فرط في واحدة من ذلك لوقع في الكفر البواح والشرك الأكبر.

رابعا: هل العمل شرط صحة أم هو شرط كمال

قالت المعتزلة والخوارج في العمل إنه شرط صحة، وقالت المرجئة إنه شرط كمال، فترتب عن هذا الأصل الفاسد أمور في غاية البطلان، فالخوارج يكفرون صاحب المعصية ولو لم يكن مستحلا لها لأن العمل عندهم شرط صحة، والمرجئة لا يكفرون من لبس الزنار والصليب ودخل معابد اليهود والنصارى معهم في أعيادهم حتى يعتقد بقلبه ذلك، أما العمل الكفري الأكبر المجرد فلا يكفرون به فوقع بين هذا الغلو والجفاء ضلال مبين وفساد عريض.

ولهذا عندما يعارض أصحاب الحديث الخوارج والمرجئة ينسبهم الخوارج إلى الإرجاء وينسبهم المرجئة إلى الخوارج وهم وسط بين الوعدية والوعيدية، فهم يأخذون الحق مع كل فرقة ويردون باطلهم كما أنهم وسط في الصحابة بين الروافض والنواصب ووسط في الصفات بين المجسمة والمعطلة ووسط بين المدرسة الصوفية والمدرسة العقلية فليس فيهم غلو الصوفية ولا جفاء العقلانيين.
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.

فكل فرقة تنسبهم إلى التي تناقضها كذبا وزورا وهذا لا يضرهم في شيء إذ هم على الصراط المستقيم والمنهج القويم.

والصحيح في ذلك هو قول أصحاب الحديث أن العمل من مسمى الإيمان أي أنه شرط صحة في الإيمان باعتبار أي فيما يتعلق بالتوحيد وأصول الإيمان وأنه شرط كمال باعتبار أي في فعل الواجبات و ترك المحرمات ما لم يستحل العبد شيئا من ذلك، فوضع القواعد في الاعتقاد بعيدا عن الكتاب والسنة أمر باطل لأن فساد المقدمة سيؤدي حتما إلى بطلان النتائج، فكل القواعد التي وضعها المتكلمون بناء على أصولهم الفاسدة باطلة وإنما تؤخذ القواعد الاعتقادية من الكتاب والسنة والإجماع المتيقن.

أما إشكالية العقل والنقل عند المتكلمين فهي نابعة من برهان الفلاسفة وجدل المتكلمين والعقل الذي يتكلمون عنه هو العقل اليوناني وهو باطل قطعا، والنقل الذي يتكلمون عنه وهو الوحي المنزل وهو الحق الذي ﻻ مرية فيه، فلا يلزم من التمسك بالوحي نفي العقل الشرعي فالقرآن مليء بالدعوة إلى التفكر والتدبر والتفقه والفهم ومدح أولي الألباب فلا تعارض بين الوحي المنزل والعقل الرشيد فضلا عن التناقض وإنما الخلاف بين الوحي الرباني والعقل اليوناني وبين أصول الشريعة وحكمة اليونان، أما إطﻼق إشكالية العقل والنقل التي توهم أن اﻻيمان بالنقل يناقض استعمال العقل بإطﻼق فهذه اﻻشكالية باطلة من أساسها.

فالعقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

كما أن مسائل التحسين والتقبيح العقليين فقد أخد المعتزلة منها ما يناقض قول الأشاعرة مناقضة كاملة وكلاهما ضل السبيل، فلا تكليف إﻻ بشرع وﻻ يحاسب ﷲ العباد إﻻ إذا قامت عليهم الحجة الرسالية خلافا لمذاهب المعتزلة وأن الإنسان يعرف أمورا عديدة من الحسن والقبيح بالعقل ابتداء خلافا ﻷقوال الأشاعرة والمرجئة.

فأهل الحديث وفقهاء الأثر وسط في مسائل التحسين والتقبيح العقليين بين غلو المعتزلة وجفاء الأشاعرة لأنهم يدورون مع النص حيث دار بفقه السلف الصالح وفهم الأئمة الهداة المهتدين.

أما بالنسبة لموضوع الإسم والمسمى فهل الإسم هو المسمى؟؟

أم أن الإسم غير المسمى، فالذي اختاره أهل الحديث خروجا من هذا المأزق الكلامي هو أن الإسم للمسمى والصفة للموصوف فخالفوا المعتزلة والأشاعرة.

وهكذا في كل الإشكاليات الكلامية كقولهم هل العبد مخير أم مسير؟

والحق أن العبد مخير باعتبار خلافا للأشاعرة والمرجئة ومسير باعتبار خلافا للمعتزلة والفلاسفة، أي أنه مخير في ما سيحاسب عنه يوم القيامة ومسير فيما لا يحاسب عليه فكون المرء ذكرا أو أنثى عاش طويلا أو قليلا كان عاقرا أو ولودا وطوله ولونه وغير ذلك أمور لا يحاسب عليها فهو مسير في ذلك أما إيمانه واستقامته ومحافظته على دينه أو التفريط في ذلك فهو مخير فيه وسيحاسب عليه وكل ذلك في علم الله تعالى لأنه عليما بكل شيء وكتبه في إمام مبين لأنه رب العالمين وشاءه لأن مشيئته عظيمة وخلقه لأنه خالق كل شيء، فيجمعون بين الإيمان بالربوبية والعظمة والوحدانية والجلال ويؤمنون بما وهبه الله للعبد من مشيئة واختيار في ظل مشيئة الرب وإرادته النافدة وحكمته البليغة.

فهناك العديد من القواعد الكلامية التي يعتبرها المعتزلة واﻷشاعرة من قطعياتهم ويظنون أن ﻻ قول ثالث في الباب، وأن من خالفهم فيما هم عليه فهو حشوي سطحي حرفي ﻻ دراية له بالحقائق العقلية وﻻ باﻷسرار الفلسفية.

لكن فقهاء الحديث وعلماء اﻷثر لهم الحجة البالغة في بيان اﻻحتجاج بالمنقول الصحيح أو إبطال قول المخالف بالعقل الصريح، فقد أقاموا الحجة القطعية على أهل البدع والأهواء وأثبتوا تناقضهم في ذلك وأنهم خالفوا أصولهم وناقضوا كتاب ربهم وعطلوا صحيح سنة نبيهم بل وأتوا على العقليات بالأباطيل فلا الشرع نصروا ولا العقل خدموا ولا الكفر هدموا والله المستعان.

إذا فالعمل هو من مسمى الإيمان أي شرط صحة باعتبار فكل ما يناقض الإيمان من الأعمال فهو شرط صحة، وهو شرط كمال باعتبار أن الأعمال التي لا تناقض الإيمان فهي شرط كمال.

فالخوارج والمعتزلة جعلوا كل الأعمال شرط صحة للإيمان فإذا زال عمل واحد كمن وقع في كبيرة أو عطل واجبا شرعيا فهو عندهم كافر كفرا أكبر وهو عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين واتفقوا جميعا على أنه يخلد في النار يوم القيامة.

أما المرجئة فالعمل عندهم شرط كمال فقط ولو فيما يناقض الإيمان اللهم إلا إذا ناقض الإيمان من جميع الوجوه كسب الله ورسوله والسجود لصنم وتمزيق المصحف أو ما إلى ذلك لأنهم يعتبرون ذلك دليلا على التكذيب والجحود التي هي أصل الكفر عندهم، أما إذا خالف التوحيد من بعض جوانبه كالأعمال الكفرية المجردة فيشترطون لذلك تكذيب القلب والسبب في هذه البدعة الغليظة أن العمل شرط كمال بإطلاق.

وأهل الحديث وأئمة السنة وسط بين الغلاة من الخوارج والمعتزلة وبين الجفاة من المرجئة والأشاعرة، فقد جعل الله لكل شيء قدرا.

خامسا: الكفر اﻷكبر والكفر اﻷصغر في اﻻعتقاد والعمل:

إن الكفر عند أهل السنة والجماعة ينقسم إلى كفر أكبر وكفر أصغر، والكفر الأكبر قد يكون في مسائل الإعتقاد وقد يكون في الأمور العملية وهو مخرج من ملة التوحيد، وقد يكون كفرا أصغر سواء في الإعتقاد أو العمل فلا يكفر صاحبه ويكون مسلما، وكذلك اﻷمر بالنسبة للشرك اﻷكبر والشرك اﻷصغر، والظلم اﻷكبر والظلم اﻷصغر، والفسق اﻷكبر والفسق اﻷصغر، والنفاق اﻷكبر والنفاق اﻷصغر، فكل ما ورد بصيغة اﻷكبر فهو مخرج عن اﻹسلام وكل ما ورد بصيغة اﻷصغر يكون صاحبه مسلما لكنه وقع في جرم عظيم.

فالذين يعتقدون أن الكفر اﻷكبر هو الكفر اﻻعتقادي وأن الكفر اﻷصغر هو الكفر العملي يخالفون مذهب أهل السنة والجماعة، الذين يقولون الإيمان قول وعمل والكفر قول وعمل، لأن من الأعمال ما هو كفر أكبر، فمن خالف السلف في مسألة “هل رأى النبي صلى ﷲ عليه وسلم ربه ليلة اﻹسراء والمعراج” فهذه مسألة اعتقادية وﻻ علاقة لها بالكفر اﻷكبر، بل من خالف في قضايا الصفات في اﻷمور الخفية ﻻ يعد كافرا كفرا أكبر مثاله: كمن قال بخلق القرآن و أن ﷲ ﻻ يُرى يوم القيامة، فهذه مسألة اعتقادية وهي كفر في ذاتها لكن لما كانت مسألة خفية ووقع فيها اﻻشتباه الكبير لم يكفر السلف عامة القائلين بذلك بأعيانهم و إن كان النوع كفرا، كذلك المسائل الخفية في باب توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية كمسائل في التوسل و التبرك إذا كانت خفية.

والكفر العملي قد يكون أكبر وقد يكون أصغر فمن الكفر اﻷكبر العملي تمزيق المصحف والسجود للصنم ولبس الزنار داخل الكنائس والحضور معهم في أعيادهم الدينية ولو ادعى أن دينهم باطل وأن أعمالهم مردودة عليهم فهذا كفر عملي أكبر.

وقد يكون الكفر العملي كفرا أصغر كما قال عليه الصلاة والسلام: «أربع في أمتي من أمور الجاهلية كالنياحة والفخر باﻷنساب والطعن في اﻻحساب واﻻستسقاء بالنجوم» وقوله صلى ﷲ عليه وسلم: «ﻻ ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض»

فالذين يربطون الكفر باﻻعتقاد فقط فهؤﻻء قد تأثروا بمذهب غلاة المرجئة الذين يخرجون العمل من مسمى الإيمان ويربطون الأمر بمسائل الاعتقاد، وإﻻ فجماهير العلماء يعتبرون الكفر قد يكون اعتقادا وقد يكون عنادا وقد يكون استهزاء، ويدخل في كفر العناد اﻹباء واﻻستكبار واﻻعتراض على ﷲ ورسوله واﻻنتقاد ﻷحكام الشريعة والتنقيص لدين ﷲ، كما يدخل بذلك اﻻعراض واللاَّمبالاة وعدم اﻻهتمام في تعلم الدين وتعليمه ونصرة الدين وإحقاق الحق وإزهاق الباطل واعتبار هذه الأمور قضايا شخصية ولا تستحق أي اهتمام من الناس وكلٌّ وشأنه فأنا أعبد الله كما أمرني فلا يهمني شخص أن يكون مشركا أو يهوديا أو نصرانيا وهذا ليس له من التوحيد نصيب لأنه لم يكفر بالطاغوت.

إذا فالكفر العملي الأكبر هو كفر بمجرد الفعل كمن ذبح لغير الله أو استغاث لغير الله فيما لا يقدر عليه الا الله أو استهزأ بشريعة الرحمن وقال إنها أمور رجعية أو عمل على تعطيل ذلك أو تعامل مع اليهود والنصارى على أن دينهم صحيح وأنه غير مبدل ولا منسوخ أو كان من دعاة الإنسانية بالمعنى العلماني الباطل فهذه الأعمال وغيرها بذاتها تكون كفرا مخرجا من الملة ولا يتوقف الأمر على الاستحلال القلبي كما تقول المرجئة بل من دخل الكنائس ومعابد اليهود بلباسهم يوم أعيادهم ولو كان يبغضهم ويعتقد بطلان دينهم لا ينفعه شيء من ذلك إذا أتى هذه المكفرات العملية لأنها أصل مستقل يكفر صاحبه بإتيانه ولو كان مصدقا بقلبه ناطقا للتوحيد بلسانه بل ولو كانت أعماله كلها صحيحة إلا هذا الناقض وحده لكفاه كفرا أكبر وشركا أعظم وكل ما يخالف هذا الأمر فهو إرجاء خبيث وأشعرية ممقوتة، كما أن من أدخل المعاصي والموبقات في الكفر المجرد فهو خارجي خبيث أو معتزلي مقيت.

فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه..

سادسا: العمل من مسمى اﻹيمان:

لقد اختار أهل العلم من أصحاب الحديث وفقهاء السنة أن العمل من مسمى الإيمان حتى لا يدخلوا حلبة صراع المتكلمين في كونه شرط صحة أو شرط كمال، فالعمل من مسمى الإيمان والإيمان قول وعمل والكفر قول وعمل.

أما أهل البدع فالإيمان عندهم ﻻ يتجزأ وﻻ يتبعض وﻻ يزيد وﻻ ينقص، فيكون اﻻخلال بعمل واحد يبطل اﻹيمان كله حسب مذهب الخوارج والمعتزلة، أما المرجئة والأشاعرة فالعمل عندهم ليس من مسمى الإيمان.

أما أهل السنة والجماعة فيقولون العمل من مسمى اﻹيمان، وﻻ يقبلون بقول: هل هو شرط صحة أم شرط كمال، ﻷن هذا السؤال من بدع المتكلمين خلافا لما كان عليه أهل العلم المتقدمون، وهذا كقولهم هل اﻹنسان مسير أم مخير؟؟ وإشكالية العقل والنقل والتحسين والتقبيح وما إلى ذلك من البدع التي وضعها المتأخرون ليكون الجواب منحصرا في مذاهب أهل اﻻعتزال أو أقوال اﻷشاعرة، وكلاهما باطل وحيث أصبح هذا القول شائعا رغم بطلانه فأهل الحديث يوضحون مذهبهم إحقاقا للحق وإبطاﻻ للباطل.

فالعمل عند فقهاء الحديث شرط كمال باعتبار وهو شرط صحة باعتبار، فما يتوقف عليه إيمان المسلم فهو شرط صحة وما كان من الأعمال الواجبة والمستحبة فهو شرط كمال، مثال ذلك في باب الاعتقاد أن من أبغض الأنبياء أو حسدهم أو تمنى هزيمتهم أو أبغض الملائكة أو الشرائع المنزلة أو استهزأ بشيء من ذلك أو عاند في الإعتراض على هذه الأمور فهذا شرط صحة كما أن في باب اللسان من سب الله ورسوله وشريعته أو قال هذا لا يصلح وفيه ظلم وما إلى ذلك وفي باب الجوارح مزق المصحف أو سجد لصنم أو قاتل نبيا فهذا كله شرط صحة في الإيمان، أما ما لم يتوقف عليه إيمان المرء فهو شرط كمال سواء كان كمالا واجبا أو كمالا مستحبا، والغريب أن الخوارج والمعتزلة يجعلون هذه الأصناف كلها تدخل في شرط الصحة ويقابلهم المرجئة فيجعلون هذه كلها من باب شرط الكمال فضلَّ هؤلاء بغلوهم وضل أولائك بجفائهم وخرج أهل السنة من فرث الغلو ودم الجفاء لبنا خالصا سائغا للموحدين الصادقين والربانيين المخلصين.

فاﻹيمان عند أهل الحديث قول وعمل يزيد وينقص.

فالقول قول القلب وقول اللسان والعمل عمل القلب وعمل الجوارح، فقول القلب هو التصديق الشرعي، وهو تصديق مخصوص، أي اﻹقرار بما أخبر ﷲ به ورسوله، ثم عمل القلب الذي هو اﻻنقياد المصاحب بالحب والخوف والرجاء، فأيما قلب لم ينقد لله انقيادا فتصديقه غير شرعي، أي تصديق باطل، كمن أبغض الرسول عليه الصلاة والسلام أو حسده أو استهزأ بدين الله أو تعلق قلبه بمخلوق فيما لا يليق إلا بالله جل وعلا، فهذا التصديق مناقض للتوحيد، لأنه لم يحقق عمل القلب فلا إيمان له ولا إسلام.

وأما قول اللسان كالشهادة لله بالوحدانية، فمن أبى أن ينطق بالشهادتين لغير مانع معتبر شرعا فليس بمسلم ولو صلى وصام، فلا ينفعه قول القلب الذي هو اﻹقرار وﻻ عمل القلب الذي هو اﻻنقياد وﻻ عمل الجوارح. فمن أبطل أصلا من هذه اﻷصول التي هي قول القلب وعمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح يكون قد أبطل إيمانه وتوحيده، كما أن القول باللسان لكلمة الكفر أو سب ﷲ ورسوله أو الطعن في دينه فكل هذا يبطل التوحيد ويزيل اﻹيمان بالكلية.

أما عمل الجوارح: فمن أعمال الجوارح ما هو من المستحبات وتركه يكون من المكروهات، ومن اﻷعمال ما هو من الواجبات ويأتي في مقابلها ما هو من المحرمات، وفي هذه المسألة “وجوب الواجبات وحرمة المحرمات” يكفر الخوارج والمعتزلة صاحب الكبيرة، أي الذي أخل بالواجب أو فعل المحرم فهذا لا يكفر صاحبه بمجرد الفعل حتى يصاحب بالاستحلال كما هو مذهب أهل الحق.

وأما عند أهل الحديث، فيعتبرون اﻷعمال التي يتوقف عليها اﻹيمان فعلا أو تركا.

كمن مزﱠق المصحف أو سجد لصنم كفرا يخرج به صاحبه من ملة اﻹسلام إجماعا، ﻷن هذا يخالف اﻹيمان من جميع الوجوه، على خلاف مع المرجئة هل الكفر بالفعل أم أنه دليل على الجحود في القلب، وقد اتفقوا جميعا على كفر من فعل ذلك، والصواب ما ذهب إليه فقهاء الحديث وأئمة اﻷثر من أن هذا الفعل بمجرده يكون كفرا ﻷن اﻹيمان قول وعمل، والكفر قول وعمل، أما المرجئة فاﻹيمان عندهم هو التصديق والكفر عندهم هو التكذيب والجحود فقط.

وهناك من اﻷعمال ما هو كفر يختلف فيه المرجئة مع أصحاب الحديث، كمن بنى كنيسة ليعبد فيها غير ﷲ أو لبس الزنَّار أو البرنيطة وما هو من لباس الدين عندهم، ومن يحضر أعيادهم في كنائسهم، ولو ادَّعى بغضهم وشهد على دينهم بالبطﻼن، فيحكم عليه أهل الحديث بالكفر، ﻷن قول القلب هنا وعمل القلب وقول اللسان قد أبطل ذلك كله العمل بالجوارح في باب أركان التوحيد وأصول اﻹيمان، وهنا مفرق الطريق بين أصحاب الحديث وأئمة اﻷثر والخوارج والمعتزلة من جهة ومع المرجئة من جهة أخرى.

لأن الأعمال المتعلقة بالكفر أو الشرك لا تحتاج إلى استحلال في القلب أو إلى اعتقاد في الفؤاد، مثال ذلك: سدنة القبور وإن ادعوا أن هذا الأمر باطل فهم بالسهر عليها وخدمتها والذبح لها فهم مشركون وإن كانت قلوبهم تبغض ذلك وألسنتهم تجهر بإنكار ذلك فعملهم الكفري المجرد يخرجهم من الإيمان، وكذلك من يلبس الزنار ويدخل الكنائس في الأعياد وغيرها وإن كان يتلو القرآن ويشهد على دينهم بالبطلان لا ينفعه ما في قلبه ولا ما ذكر لسانه لأنه عمل عملا كفريا وهذا معنى قول السلف الكفر قول وعمل، أما المعاصي من شرب الخمر والزنا والربا وما إلى ذلك فليست كفرا حتى يستحلها صاحبها.

سابعا: شعب اﻹيمان وشعب الكفر:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله الا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق».

إذا فالإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة فكذلك الكفر فهو بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، لأنه يأتي الكفر في مقابل الإيمان.

فأهل البدع والأهواء الخارجون عن جماعة المسلمين ليس عندهم شعب للإيمان ولا شعب للكفر وإنما هو أمر واحد إما كفر وإما إيمان لأنه لا يتجزأ عندهم الإيمان ولا يتبعض فهو أمر واحد ومن ثم فلا يحتاجون إلى شعب مكفرة وشعب غير مكفرة.

فالتجزؤ والتبعض في مسمى اﻹيمان وكذلك في مسمى الكفر عند أهل الحديث جعلهم يقسمون اﻹيمان إلى شعب والكفر إلى شعب، بخلاف غيرهم الذي جعل اﻹيمان أمرا واحدا، والكفر أمرا واحدا، فهو إما إيمان ولو خالطته شعب الكفر، أو كفر ولو صاحبته شعب اﻹيمان، وقد ترتب عن ذلك عند الغلاة والجفاة من التناقضات والإضطرابات والأقوال الباطلة لتعصبهم لأصولهم لأنها أمور مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان.

فمن الشعب ما هو مرتبط بالتوحيد والإيمان فيكون ناقضا للإسلام إذا حصل شيء من ذلك فعلا أو تركا.

ومن الشعب ما هي من الواجبات والمحرمات فلا يكون فعل ذلك أو تركه من نواقض الإسلام وإنما هي كبائر وموبقات لكن الخوارج والمعتزلة الذين يعتقدون الكفر أمرا واحدا وليس شعبا متعددة فيدخلون كل مخالفة فعلا أو تركا في الكفر المخرج من الملة ويقابلهم المرجئة والأشاعرة فيحكمون بالإيمان للمرء مهما كانت مخالفاته الشرعية فعلا أو تركا ولو في ما له صلة بالتوحيد والإيمان لأن اعتقادهم عدم وجود شعب للإيمان والكفر وأن الإيمان والكفر أمر واحد حكموا على من نطق بالشهادتين وصدق في قلبه بالإسلام والإيمان ولا ينتقض ذلك إلا بترك التصديق أو مناقضة الشهادتين ولو جاء بالكفر الصراح البواح حتى يعتقد قلبه الكفر أو ينطق لسانه بالكفر مما اضطرهم في الأمور التي تناقض الإيمان من جميع وجوهه كسب الله ورسوله وتمزيق المصحف والسجود لصنم أن يقولوا إن هذه الأقوال والأفعال دليل على تكذيب القلب وجحوده حتى لا تتناقض أصولهم والحق أنها كفر مجرد بالفعل والقول دون ما اعتقاد في القلب.

فتقسيم الإيمان إلى شعب والكفر إلى شعب يجعلنا نضع كل شيء موضعه فلا تختلط الأمور ولا تتناقض المسائل وأن نعطي كل ذي حق حقه وهذا ما اختاره أئمة الحديث وفقهاء السنة رفع الله درجاتهم في الجنة.

ومن فوائد هذا التقسيم الشرعي أن أهل العلم من أصحاب الحديث يجمعون للمرء المسلم بين وﻻء وبراء، ومحبة وبغض، وموافقة ومخالفة وهذا ما لا يوجد عند غيرهم ممن ﻻ يرى زيادة اﻹيمان ونقصانه.

فالمرجئة يحبون جميع الناس لأنهم يقولون لا إله إلا الله والخوارج يبغضون جميع الناس لأنهم نقضوا لا إله إلا الله بالكبائر والمعاصي، أما أهل الحق من أهل السنة والحديث يجمعون للمرء الواحد بين محبة وبغض وولاء وبراء على قدر استقامة العبد تكون محبته وعلى قدر انحرافه يكون بغضه أما إذا أتى ناقضا من نواقض الإسلام في قول القلب أو عمل القلب أو قول اللسان أو عمل الجوارح فهذا كافر كفرا أكبر يخرج به من الإسلام فيبغض البغض الأكبر ويتبرأ منه البراء الأعظم.

فأهل السنة والجماعة وأئمة الحديث وفقهاء اﻷثر يقولون اﻹيمان قول وعمل والكفر قول وعمل وأنه يزيد وينقص ويتبعض ويتجزأ، ويفرقون بين اﻹيمان المطلق ومطلق اﻹيمان، وأن الكفر العملي اﻷكبر ما كان في باب التوحيد والإيمان ﻻ في باب الواجبات والمحرمات، وأنهم يفرقون بين النوع والمعين، والشروط و الموانع، والعذر الشرعي في الأمور الخفية من الجهل والخطأ والتأويل والتقليد، ويفرقون بين ذلك وبين الأمور الظاهرة، ويراعون من كان حديث عهد بكفر أو نشأ في بادية نائية، أو عاش في اﻷزمنة و اﻷمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة.

كما أن التكفير بالكبيرة باطل عند أئمة الحديث إجماعا إﻻ من استحل ذلك فيكفر اتفاقا وغير ذلك من اﻷسباب الشرعية المعتبرة عند أهل الحق والتي ﻻ يلتفت إليها الخوارج وﻻ المعتزلة وﻻ يبالي بها المرجئة وﻻ الجهمية بسبب بدعهم في الأًصول التي يعتمدونها والقواعد التي خالفوا بها الحق وأهله ويعمدون إلى نصوص القرآن فيحرفونها تحريفا وينكرون السنة الصحيحة جملة وتفصيلا.

أما أهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث وفقهاء الأثر فيعتمدون على السنة النبوية الصحيحة في مسائل الإعتقاد والتوحيد والإيمان وغيرها من أبواب العلم فنفعهم الله بذلك نفعا عظيما، كما أنهم يعتبرون فهم السلف أصلا كبيرا وهم الصحابة والتابعون والأئمة المهتدون، لأنهم نقلوا القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة ونقلوا معهم فهم ذلك وعلمه.

أما الخوارج والمعتزلة والمرجئة والجهمية وغيرهم من أهل البدع كالروافض والقدرية فهم لا يلتفتون إلى السنة النبوية ولا إلى مصادر الحديث وأنها آحاد لا يحتج بها، وفي حاجة الإحتجاج بالسنة يبالغون في التحريف والتبديل بما يوافق أصولهم المبتدعة وأقوالهم المخترعة فضلوا بذلك ضلالا مبينا وتناقضوا تناقضا صريحا وخالفوا الكتاب والسنة مخالفة شنيعة وهاجموا السلف وتنقصوهم ووصفوهم بأقبح الأوصاف ومن تأدب منهم قال عن الصحابة والتابعين لقد شغلهم الجهاد عن دراسة مسائل الإعتقاد وهذا من الكذب البين والإفتراء الصراح فقد كان حرصهم على فهم القرآن والسنة كحرصهم على حفظ ذلك والعمل به رضوان الله عليهم.

فمن شعب اﻹيمان ما يتوقف عليه التوحيد سواء في قول القلب أو عمل القلب، أو في قول اللسان أو عمل الجوارح، خلافا للخوارج والمعتزلة.

والمرجئة تساهلوا وتوسعوا حتى ردﱡوا القطعيات، وأفسدوا على اﻷمة الدين، وشهدوا ﻷهل الكفر البواح باﻹيمان، وجعلوا تصديق القلب مهما تدنس بالكفريات كإيمان جبرائيل وميكائيل، وكل هؤﻻء أبطلوا الدين، وحرفوا الشرع، وعادوا على َاﻷصل باﻹبطال، وجرﱡوا على اﻷمة في قديم الزمان وحديثه من الويلات ما ﷲ به عليم حتى رق دين الناس وسقط من أعين الخلق تعظيم الشرع والعمل به وعم البلاء والفساد بلاد المسلمين لاعتقادهم أنه مهما أتى المرء من البلايا فإيمانه كإيمان جبرائيل وميكائيل وأشاعوا مقولات باطلة وهي أن الأصل القلب ولا يعلم ما في القلب إلا الله وكم من زنديق في الظاهر قد يكون صديقا في الباطن وهو كلام حسب قواعدهم يؤدي إلى ابطال الدين وعندما يتكلم رجل بالكفر أو يعمل الكفر يبادرونك بالقول وهل اطلعت على ما في قلبه لأن كل فعل يجب عندهم أن يصدر عن اعتقاد في القلب أو جحود صريح باللسان.

وقابل هؤلاء الضلال من المفسدين في الأرض عتاة الخوارج والمعتزلة فكفروا المسلمين بالكبائر والموبقات، وقد صرحت الشريعة في نصوصها القطعية وتطبيقاتها النبوية أن الكبائر والموبقات ليست من الكفر في شيء إلا أن يستحلها صاحبها وأن مجرد الفعل إذا لم يرتبط بالاستحلال فهو مجرد كبيرة ومعصية لا غير.

فمن شُعب الكفر عند أهل الحق ما يناقض التوحيد في قول القلب، أو عمل القلب، أو قول اللسان، أو عمل الجوارح.

ففي قول القلب: كل اعتقاد ينافي التوحيد، ويعطي للمخلوق من الخصائص التي ﻻ تليق إﻻ بالله ، كأن يعتقد في المخلوق الضرّ والنفع والعطاء والمنع والرفع والوضع مما ﻻ يقدر عليه إﻻ ﷲ، فهذا مبطل لشعب التوحيد ومناقض ﻷركان اﻹيمان، وصاحبه وقع في الكفر اﻷكبر، وسقط في الشرك اﻷعظم ﻷن هذه مبطﻼت الإيمان في باب قول القلب نوعا وعينا في الأمور الظاهرة ويعذر في الأمور الخفية من عذرهم الشرع.

وفي عمل القلب: كل ما يناقض اﻻنقياد من اﻻعتراض واﻻنكار والعناد والإستكبار على أصول اﻹيمان وقواعد التوحيد، ناهيك عن بغض النبي عليه الصلاة والسلام وحسده وتمني هزيمته وانتصار أعدائه عليه، وكذلك الطعن في شريعته أو رسالته بالإستهزاء والإنكار، وإن كل من سوَّى بين النبي عليه الصلاة والسلام وغيره من الخلق أو ظن أنه يسعه الخروج عليه، ومن اعتبر الشريعة المنزلة عليه كغيرها من القوانين الوضعية والتشريعات البشرية ولو ادعى بلسانه تعظيم الشرع وأنه أعلى من ذلك فكل ذلك باطل بطلانا قطعيا لأنه نقض توحيده وأبطل إيمانه بفساد عمل قلبه.

أما قول اللسان: كل قول يناقض اﻹيمان من النطق بالكفر كسب ﷲ ورسوله، أو الطعن في دينه، والدعوة إلى وحدة الأديان وأن كل الشرائع صحيحة غير مبدلة والقول بالأخوة الإنسانية دينيا وأنه لا فرق بين يهودي ونصراني ومجوسي وملحد ومسلم ومن ثم فلا داعي للولاء الشرعي ولا للبراء القرآني وهذا كله من أبطل الباطل لأنه يناقض صريح القرآن وصحيح السنة وإجماع الأمة ولو ادعى صاحبه سلامة معتقده فهذه الأقوال الكفرية أبطلت إيمانه ونقضت توحيده فلا تنفعه صلاته ولا صيامه لأنه قد نطق بالكفر عياذا بالله.

وأما عمل الجوارح: فالذي له صلة بالتوحيد واﻹيمان وله ارتباط وثيق بباب الكفر العملي اﻷكبر كتمزيق المصحف والسجود للصنم ودخول الكنائس والبيع أيام الأعياد بلباس الرهبان والأحبار أو لبس الصليب أو سدانة الأضرحة، وخدمة المشاهد والقبور بتعظيمها وصيانتها والذبح لها وقبول النذور لها فهذه الأعمال كفرية مبطلة للتوحيد مناقضة للإيمان ولو ادعى صاحبه بلسانه أنه يؤمن بالقرآن العظيم ويصف الصنم بأقبح اﻷوصاف فهذا لا يتوقف تكفيره على اعتقاده لأن هذه الأعمال في ذاتها كفر صراح بواح بل من ذبح بيده لغير الله من غير إكراه ملجئ ولو زعم بلسانه أن هذه الأعمال شركية لكان كلامه لغوا ﻷنه أبطل بعمله توحيده وهدم إيمانه فكل من يشهد لهؤلاء بالإسلام والإيمان ويزعم أنه يفرق بين القول والقائل والفعل والفاعل وأنه مرتبط باعتقاد القلب فإذا قال بلسانه هذه أمور محرمة وباطلة فلا يحكم بكفره فهذا إرجاء صراح وجهمية بينة، نعم العاصي الذي يشرب الخمر ويفعل الزنا ويقتل النفس إذا كان يعتقد أن هذه الأمور محرمة أو نطق بلسانه يشهد أنها باطلة فهذا لم يستحل المعصية فيحكم بإسلامه مهما كثرت معاصيه وعظمت موبقاته، أما من يأتي الكفر العملي الأكبر فهذا كفر بمجرد الفعل ولا يتوقف على اعتقاد القلب بل لو خالفه اعتقاد القلب وخالفه النطق باللسان لا يلتفت إلى شيء من ذلك لأنه كفر بنفسه مستقل عن الاعتقاد والقول، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله “الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح من أخل بواحدة فقد كفر”.

ثامنا: أقسام الكفر عند أهل السنة والجماعة:

لما كان الإيمان عند الخوارج والمعتزلة من جهة وعند المرجئة من جهة أخرى ﻻ يتجزأ وﻻ يتبعض وهو أمر واحد، فغلا الخوارج والمعتزلة وجفا المرجئة واﻷشاعرة فترتب عن هذا أن الكفر ﻻ يتجزأ وﻻ يتبعض وليست له شعب ولا يزيد ولا ينقص وأنه أمر واحد يسمى إيمانا كله عند المرجئة وكفرا كله عند الخوارج وأنهم لا يفرقون بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان كما أنهم لا يراعون النوع والمعين والشروط والموانع والأمور الظاهرة والأمور الخفية وما إلى ذلك من الشروط والضوابط في باب مسمى الإيمان ومسمى الكفر.

أما أهل السنة والجماعة فاﻹيمان عندهم قول وعمل والكفر قول وعمل، والإيمان والكفر يزيد وينقص ويتجزأ ويتبعض وللإيمان شعب وللكفر شعب و يراعون النوع والمعين والشروط والموانع ويفرقون بين الأمور الظاهرة والأمور الخفية ويعذرون في باب المعين في الأمور الخفية الجاهل والمتأول والمقلد والمخطئ ابتداء حتى تقام عليه الحجة الشرعية، وقيام الحجة الشرعية فقد شدد فيها المرجئة والأشاعرة حسب أصولهم الباطلة، وقد اعتبرها الخوارج والمعتزلة قد أقيمت على الخلق كلهم ببعثة الرسل ونزول الكتب وأهل السنة والجماعة يعتبرون أن قيام الحجة في الأمور الظاهرة تحصل بالبلوغ وفي الأمور الخفية لا بد فيها من الفهم وهذه أعدل الأقوال وأوسطها.

أما أهل اﻷهواء والبدع فهم مخالفون مخالفة كاملة في مسمى اﻹيمان والكفر عن أهل السنة والجماعة.

فاﻹيمان عند المرجئة هو التصديق والكفر عندهم هو التكذيب والجحود، والإيمان عند الخوارج والمعتزلة قول وعمل ﻻ يتبعض وﻻ يتجزأ، فمن ترك واجبا أو أتى محرما فهو كافر عند الخوارج وفي المنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة ويخلد عندهما في النار يوم القيامة.

فأقسام الكفر عند أهل السنة والجماعة خمسة:

هذه الأقسام تكون في القلب واللسان والجوارح وكل واحدة على سبيل الإستقلال فلا تربط بمسائل الإعتقاد.

وهي أمور تجمع في أن الكفر قول وعمل قول القلب وعمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح.

فالمعركة مع المرجئة أنهم يخرجون العمل من مسمى الإيمان وأن الأعمال الكفرية المجردة يربطونها باعتقاد القلب.

كما أن المعركة مع الخوارج والمعتزلة في أنهم يدخلون جميع المخالفات العملية في مسمى الكفر ولو كانت كبائر وموبقات.

لكن أهل السنة والحديث يخرجون الذنوب والمعاصي لأنها لا ترتبط بمسائل التوحيد والإيمان كيف وأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتعامل مع الصحابة الكرام الذين وقعوا في مخالفات شرعية وكبائر وموبقات على أنهم كفار ولا أقام عليهم حد الردة ولا أمر بدفنهم بعيدا عن مقابر المسلمين بل أقام عليهم حد المعصية أو دعاهم إلى التوبة ولم يعاملهم معاملة الكفار البتة مما يدل على غلو الخوارج والمعتزلة غلوا فاحشا كما يؤكد جفاء المرجئة والأشاعرة جفاء قبيحا وخير الأمور أوسطها إذا صاحبها الدليل الشرعي.

1- كفر التكذيب والجحود

2- كفر اﻹباء واﻻستكبار والعناد

3- كفر الشك

4- كفر النفاق

5- كفر اﻻعراض

فلا يعد المرء كافرا عند المرجئة حتى يحصل منه الجحود والتكذيب جحود القلب أو تكذيب اللسان، فمن قال ﻻ إله إﻻ ﷲ مصدقا بذلك في قلبه فلا تؤثر في ذلك عندهم نواقض اﻹسلام إﻻ إذا جحد بقلبه كلمة التوحيد أو كذب بها، أما الخوارج والمعتزلة فيكفرون بكل كبيرة ﻷنها أعمال مبطلة عندهم للتوحيد، أما أهل السنة والجماعة فيعتبرون اﻹباء واﻻستكبار والعناد واﻻعتراض على ﷲ ورسوله واﻻستهزاء بدينه هي من نواقض الإيمان والتوحيد وأن العبد يخرج بها من اﻹسلام وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، كذلك الشك في الوحدانية أو النبوة او الكتاب المنزل أو الشريعة المحكمة فهذا مبطل للتوحيد وإن كان صاحبه أعبد الناس.

لكنهم لا يكفرون بالكبائر والموبقات لأنها من الذنوب والمعاصي لا من باب التوحيد والإيمان.

وأما كفر اﻻعراض وهو أن الشخص يعرض وﻻ يبالي وﻻ يهتم بلا وﻻء وﻻ ببراء وﻻ يلتفت إلى مقدسات الأمة، ويستوي عنده النور والظﻼم والحق والباطل ويعتبر الناس أحرارا ففيما يذهبون إليه لأن الإعراض ينافي التعظيم الشرعي ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ويخالف الكفر بالطاغوت الذي أمر الله به ورسوله فالذي لا يبغض الأصنام والأوثان والمشاهد والأضرحة والطواغيت الذين يحاربون الله ورسوله بغضا شرعيا فهذا قلبه ليس فيه ذرة من إيمان، فلا يكون مسلما حتى يحب الله ورسوله ويحب الذي يحبه الله ورسوله ويبغض الذي يبغض الله ورسوله ويبغض الذين يبغضهم الله ورسوله، فبسبب إعراض هؤلاء كفروا كفرا أكبر يخرجهم عن ملة التوحيد ويدخلهم في عداد أعداء الله ورسوله وإن كانوا أعبد الناس وأسخى الناس وأشجع الناس حتى تتعلق قلوبهم بالله ولاء وبراء، فهذا الاعراض كالإباء والإستكبار والشك والنفاق لا يلتفت إليه المرجئة والأشاعرة ولا يكفرون به حتى يكون عن اعتقاد في القلب أي يكون تكذيبا أو جحودا.

تاسعا: اﻷمور الظاهرة واﻷمور الخفية

إن اﻷمور الظاهرة واﻷمور الخفية في مسمى اﻹيمان وفي مسمى الكفر وفي مسائل التوحيد والشرك تفصل بين أمرين ﻻ يبقى بعدهما مجال للالتباس ﻷن المرجئة واﻷشاعرة لا يميزون بين اﻷمور الظاهرة واﻷمور الخفية وهما شيء واحد عندهما كله إيمان وكذلك الخوارج والمعتزلة لا يفرقون بين الأمور الظاهرة والخفية فكله عندهم كفر فحصل بسبب ذلك عند الفريقين التناقض الشديد والإضطراب الكبير حتى فرقوا بين المتماثلات وجمعوا بين المتناقضات، ووجهوا سهام النقد اللاذع والاتهام القبيح لأصحاب الحديث ووصفوهم بالحشوية والحرفية والظاهرية والتجسيم وأنهم يروون مالا يفهمون ويجمعون من الروايات مالا يدرون وأنهم حملة أسفار وأنهم يناقضون العقل والفهم والعمق والإدراك.

قال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 42)

فاﻷمور الظاهرة كالمعلوم من الدين بالضرورة وما كان مجمعا عليه إجماعا متيقنا وما كانت دﻻلته قطعية ﻻ تحتمل التأويل والأظهر وهو الذي يضاد اﻹيمان من جميع الوجوه، فهذا سواء في قول القلب أو عمل القلب أو قول اللسان أو عمل الجوارح وهذا الذي يضاد الإيمان من جميع الوجوه ﻻ يختلف أهل اﻹسلام في أنه كفر وردة وإن اختلفت طرائقهم في ذلك، فهؤلاء المرجئة يقولون في هذا الذي مزق المصحف أو سجد لصنم هو كافر في الظاهر أما في الباطن فقد يكون مسلما إذ عمل القلب لا يعلمه إلا الله، فيأبى عليهم الإرجاء والتجهم إلا أن يخالفوا النص والحس والعقل، فمثاله في قول القلب اﻹنكار والجحود والعناد في أصول اﻹيمان وأركان اﻹسلام، وفي عمل القلب من بغض الرسول صلى الله عليه وسلم أو حسده أو ولاء الكفار الولاء الأكبر من المحبة والنصرة أو أن يعرض إعراضا كليا عن الكتاب والسنة والشريعة بحيث لا يهتم بشيء من ذلك ولا يغضب إذا انتهكت حرمات الله وشتم نبيه صلى الله عليه وسلم وطعن في شريعته ولا يكفر بالطاغوت ولا يبالي أن يوالي أعداء الله أو أن يتبرأ من أولياء الله، وأما في قول اللسان كمن يسب ﷲ ورسوله ودينه وشريعته ويقول بلسانه الأقوال الكفرية وإن لم يعتقد شيئا من ذلك فمجرد قول الكفر كفر إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان أما ما سوى المكره فلا يحل له بحال أن يقول كلمة الكفر، ومن استطاع أن يتقي منهم تقاة أو أن يُورّي فهذا هو المطلوب شرعا، وأما إذا أكره الرجل على أن يقول كلمة واحدة فقال أكثر من ذلك فقد كفر، لأن الضرورة تقدر بقدرها وتنزل الحاجة منزلة الضرورة.

فهذا الأمر دين فيجب الحزم فيه وتعظيمه ولا يمكن التنازل في أمر التوحيد إطلاقا إلا عند الضرورة فلا يجوز التوسع في ذلك وإلا عاد الأمر على الأصل بالإبطال وهو أبطل الباطل، أما فيما يتعلق بكفر الجوارح كتمزيق المصحف والسجود لصنم فهذه من المكفرات القطعية عند جميع فرق المسلمين، لكن المرجئة واﻷشاعرة تدل عندهم هذه القطعيات كسب الله ورسوله وتمزيق المصحف والسجود للصنم كل ذلك يعتبرونه دليلا على تكذيب المرء وجحود قلبه لا على أنه كفر مجرد بذاته كما هو مذهب أهل السنة والجماعة وأنه لا يتوقف على اعتقاد كفري في القلب أو نطق شركي باللسان ولهذا فهم يكفرونه في ظاهر الأمر مع احتمال أن يكون مؤمنا في الباطن لكنهم يتعاملون معه في الظاهر على أنه كافر فلا يدفن في مقابر المسلمين ولا يورث ولا يترحم عليه لكنهم لا يقطعون بكفره في الباطن وهذا من فساد أصولهم وانحراف مناهجهم.

أما غير ذلك من اﻷمور الظاهرة التي تنافي الإيمان لكنها لا تنافيه من جميع الوجوه ولو كانت من المعلوم من الدين بالضرورة واﻹجماع المتيقن والقطعيات في دﻻﻻتها فأهل الحديث يكفرون من وقع في ذلك وﻻ يعذر عندهم المرء بجهل وﻻ تأويل وﻻ تقليد وﻻ خطأ إﻻ من نشأ في بادية نائية أو كان حديث عهد بكفر أو نشأ في اﻷزمنة واﻷمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة.

فعندما يبين أصحاب الحديث مذهبهم الحق في اﻷمور الظاهرة يتهمهم المرجئة واﻷشاعرة وغيرهم من المتكلمين بأن (أصحاب الحديث) أهل غلو وتطرف وتشبه بالخوارج وتأثر بالمعتزلة، وهذا من الكذب البين والدليل على ذلك أن الخوارج والمعتزلة يصفون أهل الحديث بأنهم مرجئة وحشوية وحرفية وظاهرية وليس لهم دراية بالعلوم العقلية ولا بأسرار المسائل العقدية.

وخلاصة القول أن الأمور الظاهرة تنقسم إلى قسمين:

-القسم الأول: وهي الأمور الظاهرة كالمعلوم من الدين بالضرورة أو الإجماع المتيقن أو الأمور القطعية في دلالاتها فهذه أمور يعتبرها أهل الحديث وفقهاء الأثر أدلة على الكفر البواح الذي لنا فيه من الله برهان فيُكفر النوع والمعين ولا يعذر المرء بجهل أو خطإ أو تأويل أو تقليد، لكن المرجئة لا يكفرون بشيء من ذلك.

-القسم الثاني: وهي الأمور الظاهرة الأشد ظهورا والأعظم بيانا كسب الله ورسوله وتمزيق المصحف والسجود لصنم والتي تضاد الإيمان من جميع الوجوه فهذه يكفر بها المرجئة في الظاهر ولا يكفرون في الباطن.

اﻷمور الخفية: وهي ما تحتاج إلى نظر وتأمل وبحث ودراسة وبعضها أخفى من بعض وكل ما ازدادت المسائل خفاء احتاجت إلى أهل الرسوخ وأعلام الملة لدقتها وخفائها، وفي هذه يعذر الجاهل والمتأول والمقلد والمخطئ ابتداء حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة بما يفهم ذلك أمثاله وأضرابه وأشباهه وأنداده.

فأهل الحديث وفقهاء الأثر في اﻷمور الخفية والمسائل الدقيقة يفرقون بين النوع أو المعين ويراعون الشروط والموانع والمسائل الظاهرة والخفية والحجة والبينة والشعب المكفرة وغير المكفرة، مع أن أصلهم في مسمى الإيمان أنه يجزأ ويبعض ويؤكدون على الإيمان المطلق ومطلق الإيمان فكان طبيعيا أن يفرقو بين الأمور الظاهرة والأظهر والخفية والأخفى مع الورع الشديد والحرص الأكيد في باب المعين لأن من أسلم بيقين فلا يزال عنه هذا المسمى إلا بيقين، وأنه إذا دلت دلائل خفية على الكفر ودلائل خفية على الإيمان يشهد له بالإيمان وهذه قواعد مرتبطة بأصول أهل الحديث وقواعدهم وضوابطهم وشروطهم وإلا فالمرجئة يستعملون هذه الأسماء لأحكام باطلة.

فيتهم الخوارج والمعتزلة أهل الحديث باﻹرجاء والتجهم والتناقض والإضطراب، وهذا كله من أبطل الباطل فهم يدورون مع الدليل حيث دار فيوافقون كل فرقة بما معها من الحق ويخالفون كل فرقة فيما خالفت الحق وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.

وأصحاب الحديث رضوان ﷲ عليهم برآء من اﻹرجاء وجفاء المتكلمين من جهة ومن الغلاة كالخوارج والمعتزلة من جهة أخرى، ﻷنهم يضعون في باب اﻷمور الظاهرة ميزانا بالحق ويضعون في باب اﻷمور الخفية ميزانا بالبينات، وأما أهل اﻷهواء والبدع فلا يتجزأ عندهم اﻹيمان وﻻ يتبعض وليس هناك شعب للإيمان ولا شعب للكفر ولا فرق عندهم بين النوع والمعين ولا الشروط ولا الموانع فغلا أقوام وهم الخوارج والمعتزلة فجعلوا تبعا لذلك اﻷمور الظاهرة والخفية في كفة واحدة فكفروا جميع الصور أي الظاهرة منها والخفية ولم يميزوا بين ذلك وجفا المرجئة والمتكلمون في اﻷمور الظاهرة والخفية فحكموا باﻹيمان على كل الصور أي الظاهرة منها والخفية فهما عندهم جميعا شيء واحد وهذا من أبطل الباطل فكيف يحكم للأمور الظاهرة كما يحكم للأمور الخفية سواء بسواء فهما إما كفر مخرج من الملة أو إيمان كإيمان جبرائيل وميكائيل فيكفي هذا في بطلان القولين وضلال المذهبين وتناقض الفريقين وهدى ﷲ أهل الحديث لما اختلف فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فلما كان الإيمان عندهم يتجزأ ويتبعض فقد فرقوا بين اﻷمور الظاهرة واﻷمور الخفية، وبين ما هو أظهر وما هو أخفى كما فرقوا بين النوع والمعين وإقامة الحجة بالفهم في مجاله وفي البلوغ في بابه وفي الإيمان المطلق ومطلق الإيمان والشعب المكفرة وغير المكفرة وما إلى ذلك من المسائل التي وقع فيها الخلاف الشديد بين أهل السنة والجماعة الذين هم أصحاب الحديث وفقهاء الأثر وبين غيرهم من أئمة الضلال من أصحاب الأهواء والبدع الذين خالفوا الأمة وخرجوا عن الجماعة.

فأصحاب الحديث أمة وسط ﻻ غلو وﻻ جفاء وﻻ إفراط وﻻ تفريط بخلاف غيرهم ممن ضرب النصوص بعضها ببعض لأن أصحاب الحديث جمعوا النصوص كلها ووضعوا كل شيء موضعه وردوا المتشابه إلى المحكم ولم يضيعوا من ذلك شيئا، فجاء مذهبهم في باب مسمى الإيمان ومسمى الكفر كما في كل أبواب الإعتقاد منسجما ومتناسقا ودقيقا ونافعا تشهد له النصوص القطعية والأدلة الشرعية وهو موروث عن سلف الأمة من الصحابة الكرام والتابعين بإحسان والأئمة الهداة المهتدين وفقهاء الملة المجتهدين.

المثال في اﻷمور الظاهرة وفي اﻷمور الخفية سواء في الخبريات العلميات أو اﻷحكام العمليات “صدقا وعدﻻ” صدقا في اﻷخبار عدﻻ في اﻷحكام، فمن اﻷمور العلميات وهي أصول اﻹيمان وفي العمليات هي أركان اﻹسلام، فكل من اعتقد في ﷲ في باب الصفات ما يضاد أصل الربوبية من جميع الوجوه كقول اليهود يد ﷲ مغلولة وكقولهم أن ﷲ فقير وكل ما كان على هذا النحو كوصف ﷲ بالعجز أو الجهل أو الظلم فهذه أمور ظاهرة والكفر فيها بَيّن كالشمس لا يخالف في ذلك إلا من كان أعمى في بصيرته حتى ينكر القطعيات حسا ومعنى.

أما اﻷمور الخفية كمسائل الصفات وغيرها، كالكلام عن الإستواء والنزول وكلام الله هل هو مخلوق أم غير مخلوق والرؤية يوم القيامة في الجنة لرب العالمين رزقنا الله ذلك مَنّا منه وجودا فهذه مسائل خفية يفرق فيها بين القول والقائل والفعل والفاعل فالقول كفر والقائل قد يعذر بالجهل أو التأويل أو التقليد أو الخطأ، فوضع هذه المسائل الخفية كالأمور الظاهرة من قول اليهود يد الله مغلولة أو إن الله لفقير أو وصف الرب بالجهل والعجز والندم ليس من موازين الحق ولا مكاييل العدل ولو سايرنا الغلاة لكفرنا الأمة لأن الكثيرين من علماء المسلمين فيهم تأويل لهذه الأمور وإن كان فاسدا أحيانا لكنهم توفرت فيهم شروط الإجتهاد واستفراغ الوسع وطلب الحق وحصول الإشتباه وشيوع الجهل والبدعة في أزمنة عديدة وأمكنة كثيرة وتكون المسألة محتملة وغير ذلك من الأسباب الشرعية والأعذار المعتبرة فلم يكفروا من أجل ذلك وإنما حكم عليهم علماء السنة بالبدعة والتحريف والتغيير والتبديل.

ولو جعلنا الأمر سواء كما تريده المرجئة والأشاعرة لحكمنا بالإسلام لمن يصف الله جل وعلا بأقبح الأوصاف كالجهل والظلم والدموية والعجز والبخل والفقر وما الى ذلك مما هو مقطوع به أنه كفر بواح لنا فيه من الله برهان قطعي.

والحق ما ذهب إليه أئمة الحديث وفقهاء الأثر من التفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية والتمييز بين ما هو أظهر في الظاهرة وما هو أخفى في الخفية لأن الجمع بين المتناقضات كالتفريق بين المتماثلات.

وفي باب الربوبية من اعتقد ان مع ﷲ خالقا أو رازقا أو أنكر وجود الرب أو نسب اﻹحياء واﻹماتة إلى غيره أو قال بأن ﷲ عز وجل لم يرسل رسلا ولم ينزل كتبا فهذه أمور ظاهرة ﻻ يفرق فيها بين النوع والمعين وﻻ يعذر أحد بجهل وﻻ تأويل وﻻ تقليد وﻻ خطأ، ومن اعتقد في اﻷصنام والقبور والنجوم والقبور أنها تضر وتنفع وتعطي وتمنع وترفع وتضع فيما ﻻ يقدر عليه اﻻ ﷲ فهذا شرك ظاهر بَيّن كالشمس.

أما الأمور الخفية فيعذر فيها الجاهل والمتأول والمخطئ والمقلد مثال ذلك أفعال العباد وهل هي من خلق الله أم هم يتحملون مسؤوليتهم في ذلك بصفة كاملة، ويكفي في بطلان هذا القول أنه يلزم عنه أن مع الله خالقا غيره وما يلزم عنه باطل فهو باطل وما يترتب عنه باطل فهو باطل وما آل إلى باطل فهو باطل، أما دعواهم أن نسبة خلق أفعال العباد الى الله يترتب عنه أنه خلق ذلك وحاسبهم عليه وأدخلهم النار أنه ظلم لا يليق بالله جل وعلا فهذا من سوء فهمهم وهو قياس باطل لأنه قياس تمثيل وقياس شمول وهو قياس باطل في مسائل الإعتقاد أما قياس الأولى فهو قياس شرعي كقولنا كل كمال من جميع الوجوه فالله أولى به جل وعلا فالكلام صفة كمال فالله أولى بأن يوصف بذلك، فالذي يشرب الخمر مثلا أو يقتل النفس بغير حق أو يأتي الموبقات فهذا الفعل قد خلقه الله لأنه لا خالق إلا الله لكنه لا يلزم منه أنه أجبر المخلوق على ذلك الفعل بل فعله بنفسه ويتحمل مسؤوليته الكاملة في الدنيا والآخرة فنجمع بين الاعتقاد في أن الله وحده هو الخالق وهذا يرجع الى الإرادة المطلقة والمشيئة الكاملة كما أننا نؤمن في أفعال العباد في حكمته البالغة وعظمته الكبيرة، فالذين راعو أمر الإرادة المطلقة كالمرجئة والأشاعرة أو آمنوا بالحكمة المطلقة كالمعتزلة والفلاسفة وقع عندهم من الإضطراب الشديد والتناقض الفظيع ما يرجع على أصول الإيمان والتوحيد بالإبطال، لأن الإيمان بالإرادة المطلقة وحدها كقول القائل إن الله قادر على أن يدخل موسى عليه السلام الى النار وأن يدخل فرعون اللعين الجنة فكلام هؤلاء يكون حول الإرادة المطلقة وهو مذهب المرجئة والأشاعرة ويأتي في مقابلهم من يراعي الحكمة المطلقة كالمعتزلة والفلاسفة فيقولون إن المرء يدخل الجنة بعمله وأن الله لا يقبل شفيعا يوم القيامة لأن هذا ينافي عندهم الحكمة المطلقة.

لكن أهل الحديث وفقهاء الأثر الذين سلكوا مسلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين فقد جمعوا بين الإيمان بالإرادة المطلقة والحكمة البالغة فهم يقولون إن إرادة الله مطلقة يفعل ما يشاء متى شاء كيف شاء لكن حكمته المطلقة هي أن يكون موسى في الجنة وفرعون في النار وأن المرء يدخل الجنة بفضل الله وكرمه ويكون عمله نافعا له يوم القيامة فيأخذ درجته حسب عمله لكن فضل الله العظيم ومَنّ الله الكبير هو زاد العبد في مسيره إلى الله وأن الله يقبل شفاعة الشافعين في الكبائر والموبقات لا في الشرك الأكبر ولا في الكفر الأعظم ومن ثم فقد آمنوا بأن الله عز وجل هو خالق أفعال العباد وأن العباد مسؤولون عن أفعالهم ولا يعد هذا تناقضا إلا عند أصحاب قياس التمثيل الذين يمثلون الرب بخلقه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وفي باب الألوهية من صرف العبادة لمخلوق مما ﻻ يصلح إﻻ لله كالسجود للمخلوق واﻻستغاثة باﻷموات والغائبين فيما ﻻ يقدر عليه إﻻ ﷲ وما إلى ذلك من العبادات الظاهرة التي ﻻ تصلح إﻻ لله وﻻ تليق إﻻ بالله وفيما لا يقدر عليه إﻻ ﷲ، فهذه أمور ظاهرة ﻻ يعذر فيها أحد من الناس بجهل ولا تقليد ولا تأويل ولا خطأ اللهم إﻻ من نشأ في بادية نائية أو في أزمنة وأمكنة انطفأت فيها أنوار النبوة أو من كان حديث عهد بكفر فيعذر ابتداء حتى تقام عليه الحجة الرسالية وتبين الله المحجة الربانية بما يفهمها أمثاله وأضرابه وأشباهه وأنداده.

فمن الأمثلة الواضحة في الأمور الظاهرة هو القرآن الكريم فمن أنكر حرفا واحدا من القرآن الكريم فقد كفر بالقرآن الكريم لأنه أمر ظاهر متواتر معلوم من الدين بالضرورة، ومثال الأمور الخفية موضوع القراءات القرآنية فإنكار القراءات القرآنية مثلا وإن كانت متواترة فهو أمر خفي لا يعرفه الا الراسخون في العلم فقد أنكر قراءات أو جادل فيها أو تشكك فيها الكثير من العلماء قديما وحديثا فهؤلاء لا يكفرون لأنه أمر خفي وفي بعض أبوابه خفاء شديد فيعذر المرء حتى يبين له الحكم الشرعي بيانا شافيا.

ومن الأمور الظاهرة أن الأنبياء الكرام والرسل العظام كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ومحمد بن عبد الله صلوات الله عليهم أجمعين لا يجوز إنكارهم أو تكذيبهم أو الطعن فيهم لأن نبوتهم ظاهرة ظهورا بينا.

ومن الأمور الخفية في مسائل النبوة من جاء ذكرهم في بعض الأحاديث التي ذكرت أسماء بعض الأنبياء كيوشع بن نون وكشيت ابن آدم فهذا أمر خفي إذا توقف فيه المرء أو تشكك فيه فلا يكفر بحال، كما هو شأن في أنبياء بني إسرائيل الذين لم يأت ذكرهم في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية كصموئيل وأشعيا وأرميا ودانيال وغيرهم كثير فمن أنكر شيئا من ذلك أو توقف فيه أو اعتقد أنه لا يجوز الإيمان إلا بمن جاء في كتاب الله عز وجل ونذكر ذلك على سبيل الإستئناس لا على سبيل الإعتقاد وهذا هو الصواب إن شاء الله فلا مجال لإدراج شيء من ذلك في باب الإيمان بالرسل الكرام فنؤمن بالتفصيل كما ورد في الكتاب الكريم والسنة الصحيحة كما نؤمن بالإجمال فيما لم يرد في الكتاب الكريم والسنة الصحيحة.

ومن ذلك أن اتهام عائشة أم المؤمنين وهي الصديقة بنت الصديق بالفاحشة هذا أمر ظاهر في بطلانه ظهورا بينا فلا يعذر فيه أحد بالجهل أو بالخطأ او بالتأويل أو بالتقليد ولو زعم أنه يعرف قدرها وأنها زوجة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة فقد كذّب بصريح القرآن الكريم وهذا كفر أكبر وأمر ظاهر كالشمس فكلامه كله لا يرفع عنه قُبح المؤآخدة ولا يعذر به في شيء من ذلك فكيف اذا أضاف الى الاتهام السب والشتم والتنقيص للصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله ألا قبح الله الروافض ومن شايعهم من أهل الزندقة والإلحاد.

ومن الأمور الخفية أن الرجل قد يسيئ إلى أمهات المومنين من غير اتهام بالفاحشة بل والشهادة لهم بالعفة، فإن كان يصف دين أمهات المومنين والصحابة المكرمين بما لا يليق بهم فهذا كفر خفي، أما إذا لم يتهمهم في دينهم لكنه يصفهم في أمور دنياهم بالبخل أو عدم دراية الأمور فهذه بدعة قبيحة وليست كفرا.

ومن الأمور الظاهرة العظيمة في ظهورها القبيحة في اعتقادها وهي الذبح للقبور والاستغاثة بالمقبور في ما لا يقدر عليه الا الله وتعظيم المشاهد والمواسم والأضرحة التعظيم الذي لا يليق إلا بالله فهذه أمور ظاهرة بينة وكفر صراح وشرك بواح لا يعذر فيه أحد البتة بجهل ولا تأويل ولا خطإ ولا تقليد، بخلاف التوسل والتبرك والزيارة والرقية فهي أمور خفية وبعضها أخفى من بعض، وهذا الإجمال فيه ما حق وفيه ما هو باطل، والباطل فيه ما هو شرك وما هو بدعة، وفيه أمور اختلف الناس فيها اختلافا بعضه معتبر وبعضه غير معتبر، فلا بد في ذلك من إقامة الحجة وفهمها وبيانها بخلاف الأمور الظاهرة البينة فالحجة فيها قد بلغت للناس بلوغا يقينيا اللهم إلا من كان في بادية نائية أو كان حديث عهد بكفر أو في الأزمنة والأمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة.

أما اﻷمثلة في المسائل الخفية كمباحث اﻷسماء والصفات كالقول في خلق القرآن أو نفي الرؤية فمن حيث النوع هو كفر لكن لكونه أمرا خفيا واشتبه على العديد من أهل العلم فجعل أهل الحديث هذا اﻷمر خفيا ففرقوا فيه بين النوع والمعين إﻻ أن تقام الحجة الرسالية، وكذلك في بعض قضايا الربوبية والألوهية مما يختلط على الناس بالتوسل أو بالتبرك أو تروى فيه أحاديث مكذوبة مما يشتبه به على الخلق فهذا من اﻷمور الخفية حتى تقام الحجة على الخلق، فأهل الحديث عندهم قوة ووضوح في اﻷمور الظاهرة وكلامهم أقوى فيما يضاد الإيمان من جميع الوجوه وأنهم في اﻷمور الخفية يعذرون بالجهل والخطأ والتقليد والتأويل ابتداء حتى تقام الحجة على الخلق وكلما كانت المسألة أخفى كان العذر فيه أولى.

وأهل الحديث في باب النوع والمعين كانوا أشد احتياطا إﻻ بالحجة والبينة. لكن أهل الباطل من المرجئة والمتكلمين يدرجون المسائل الخفية ﻹبطال المسائل الظاهرة، وفي مقابل هؤﻻء الخوارج والمعتزلة يريدون اﻻحتجاج على أهل الحق بذكر المسائل الظاهرة لتأخذ المسائل الخفية حكمها، أما الذين يريدون إدخال ما يضاد اﻹيمان من جميع الوجوه فلا يكفرون الساب لله ورسوله وﻻ من مزق المصحف وﻻ من سجد لصنم فهؤﻻء جهمية خالفوا اﻷمة جمعاء فلا هم في العير ولا في النفير ولا يعتبر قولهم في الإجماع ولا في الخلاف بل كان السلف ﻻ يعدونهم من الفرق الثلاثة والسبعين كعبد ﷲ المبارك وغيره من أئمة المسلمين.

وفي باب الشرك يخلط عباد القبور بين المسال الظاهرة كالذبح للمقبور والنذر له واﻻستغاثة به فيما ﻻ يقدر عليه إﻻ ﷲ وما إلى ذلك من اﻷمور الظاهرة بالمسائل الخفية كالتبرك والتوسل وزيارة القبور التي هي أمور خفية بعضها شرعي وبعضها بدعي وبعضها شركي فيخلطون الحق بالباطل ويمزجون التوحيد بالشرك ﻹبطال الوﻻء والبراء ونسف افراد الرب بالعبادة وكل ما عاد على اﻷصل اﻷصيل الذي هو توحيد رب العالمين بالباطل فهو باطل.

فالذبح مثلا قد يكون للمقبور وهذا شرك ظاهر وقد يكون عند المقبور وهذه مسألة خفية تحتاج إلى تفصيل.

والدعاء قد يكون دعاء للطواغيت فيما لا يقدر عليه إلا الله وهذا شرك أكبر وقد يكون دعاء الله عند المقبور وهو توسل بدعي إذا لم يعتقد في المقبور النفع والضر والعطاء والمنع والرفع والوضع وقال عنه إنه عبد ليس له من صفات الربوبية شيء فهذا شيء خفي وهو من التبرك المبتدع.

وقد يكون دعاء الله بالمقبور أي بجاهه وهو توسل بدعي إذا صاحبه الاعتقاد في المقبور ان جاهه عند الله كما كان يعتقد المشركون الشفاعة المنفية وهو أن هذه الأصنام لها مكانة كبيرة عند الله يُحسَب لها ألف حساب فهذا من التوسل الكفري الأكبر والتبرك الشركي الأعظم.

فاﻷمور الظاهرة البينة وكذلك الأمور الأظهرﻻ يعذر فيها بجهل وﻻ خطأ وﻻ تأويل وﻻ تقليد.

أما اﻷمور الخفية وكذلك الأمور الأخفى فيفرق فيها بين النوع والمعين وتراعى فيها الشروط والموانع ويعذر ابتداء الجاهل والمقلد والمتأول والمخطئ ممن كان قصده حسنا واستفرغ الوسع لطلب الحق إلى أن تقام عليه حجة الحق بما يفقه أمثاله ويعلم أضرابه.

والخفاء أمر نسبي فمن زال عنه الخفاء بالحجة البينة أصبح هذا الخفاء ظاهرا وتوفرت الشروط وانتفت عنهم الموانع فأصبح حكم هذا الشخص في هذا اﻷمر الخفي ابتداء ظاهرا انتهاء.

كما أن الأمور الظاهرة هي أمر نسبي إضافي فالمعلوم من الدين بالضرورة قد لا يكون معلوما في الأزمنة والأمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة والمسائل القطعية قد تكون مشتبهة في حق أقوام ولو كانوا من كبار العلماء، فيجب مراعاة هذه الأمور حتى لا نتسرع في الحكم على المعين ولا نتعجل في القول على اهمو بغير علم.

أما اﻷمور الظاهرة في باب العمليات كوجوب الواجبات وحرمة المحرمات، فمن قال بأن الصلاة غير واجبة أو أن الخمر غير حرام…

فقد أنكر معلوما من الدين بالضرورة وخلع ربقة اﻹسلام من عنقه وكفر الكفر اﻷكبر المخرج عن الملة بإجماع المسلمين.

أما في ما يتعلق بتفاصيل الصلاة والصيام والزكاة والحج أو في دقائق الربا والبيوع المحرمة فهي أمور خفية ولو كانت مجمعا عليها بين علماء الإسلام لأن الإجماع المتيقن هو الذي يعتبر من المسائل الظاهرة، فقد أجمع علماء الإسلام على أن للجدة السدس في الإرث ولكنه إجماع لا يعرفه إلا العلماء فكان من المسائل الخفية التي يعذر فيها المعين بالجهل والخطأ والتأويل والتقليد.

عاشرا: النوع والمعين

أهل السنة والجماعة وفقهاء الحديث وأئمة الأثر الذين سلكوا مسلك السلف الصالح رحم ﷲ أمواتهم وبارك ﷲ في أحيائهم يفرقون بين النوع والمعين خلافا ﻷهل اﻷهواء والبدع من الغلاة كالمعتزلة والخوارج ومن الجفاة كالمرجئة والمتكلمين والسبب في ذلك أن أهل اﻷهواء والبدع لا يفرقون بين النوع والمعين فلا ينفك المعين عن النوع عند الخوارج والمعتزلة، كما أن النوع والمعين لا يلتقيان البتة عند المرجئة والجهمية، فما موقف أهل الحق وأئمة العدل في باب النوع والمعين؟؟

فأهل الحق وأئمة العدل هم أهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث وفقهاء اﻷثر ممن سلكوا طريقة السلف الصالح وتمسكوا بما كان عليه الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان والأئمة الهداة المهتدون وفقهاء الملة المجتهدون يفرقون بين النوع وبين المعين حيث يجب التفريق، ويجمعون بين النوع والمعين حيث لا يجوز الإنفكاك، وهذا ليس من التناقض في شيء كما يصفهم خصومهم من الغلاة والجفاة بل هو وضع الشيء موضعه بناء على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والفهم السليم للصحابة والتابعين والقواعد الرصينة التي وضعها الأئمة الهداة المهتدون، فهم يلتزمون الشروط والموانع ويعذرون بالجهل والخطأ والتأويل والتقليد في اﻷمور الخفية وكلما كانت أخفى كان العذر أولى إﻻ إذا أقيمت الحجة الرسالية وﻻ يعذرون بشيء من ذلك في الأمور الظاهرة البينة إﻻ من نشأ في بادية نائية أو كان حديث عهد بكفر أو في اﻷمكنة أو اﻷزمنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة، ويقولون بإقامة الحجة وذلك ببلوغها في اﻷمور الظاهرة وبفهمها في اﻷمور الخفية ثم بعد ذلك هناك اﻻستتابة وهو أن القضاء الشرعي بعد إقامة الحجة الشرعية يعطي المرء آخر فرصة للتراجع عن كفره أو زندقته أو بدعته الغليظة اختيارا وهذا كله بعد العدل الذي هو إقامة الحجة فهو الرحمة بالخلق حتى يهتدوا عن اختيار وهو عين الحكمة في بناء مجتمع سليم وما إلى ذلك وعلماء الملة يتهيبون في موضوع المعين فكان الإمام أحمد ابن حنبل يقول “أجبن” أي “أتهيب” وذلك احتراسا في باب المعين اذا اشتبه أمره.

ويحترسون في المعين غاية اﻻحتراس إﻻ باليقين خلافا لمن أراد أن يعمم اﻻحتراس حتى في النوع من جفاة المرجئة والمتكلمين ودفعا لغلو المعتزلة والخوارج الذين ﻻ يعذرون المعين بحال، ولا ينفك عندهم النوع عن المعين في كل الأبواب.

نعم هناك أمور ظاهرة بينة لا ينفك فيها النوع عن المعين، لكن هناك أمور خفية وبعضها أخفى من بعض فيفرق فيها بين القول والقائل والفعل والفاعل وإلا وقعنا في فظائع شنيعة وقبائح شديدة، فالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض أن نضع كل شيء موضعه، وهذه هي الحكمة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة:269)

مثال ذلك في المعين الذي لا ينفك عن النوع وهي اﻷمور الظاهرة التي تنافي اﻹيمان من جميع الوجوه وهي أعلى المراتب في هذا الباب لأنها أمر مجمع عليه وذلك كبغض النبي عليه الصلاة والسلام وحسده في عمل القلب وسب ﷲ ورسوله في عمل اللسان وتمزيق المصحف والسجود لصنم في عمل الجوارح.

وفي مسائل الشرك الأكبر والكفر الأعظم سواء في باب توحيد اﻷسماء والصفات أو توحيد الربوبية أو توحيد اﻻلوهية ففي كل ذلك مسائل ظاهرة وبعضها أظهر وأمور خفية وحاﻻت منها أخفى فيكفر المرء في الأمور الظاهرة نوعا وعينا لأنه لا ينفك في هذا الباب النوع عن المعين سواء كان ذلك في قول القلب أو عمل القلب أو قول اللسان أو عمل الجوارح وفي أبواب التوحيد والإيمان في الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية في كل ذلك أمور ظاهرة بينة لا ينفك فيها النوع عن المعين وأمور خفية يفرق فيها بين القول والقائل والفعل والفاعل حتى تقام الحجة الرسالية، أما الأمور الخفية فهناك انفكاك بين القول والقائل والفعل والفاعل ويعذر الجاهل والمقلد والمتأول والمخطئ ابتداء حتى تقوم عليه الحجة الشرعية وتتبين له المحجة الربانية بما يفهم ذلك أمثاله وأضرابه وأشباهه وأنداده.

فالنوع هو القول أو الفعل والمعين هو القائل أو الفاعل فهناك أمور ﻻ يمكن اﻻنفكاك فيها بين القول والقائل او الفعل والفاعل وهناك مسائل ﻻ بد فيها في المعين من توفر الشروط وانتفاء الموانع كما أن هناك مباحث ﻻ علاقة للمعين فيها بالنوع إطلاقا لإنفكاك الجهة كمن يقول كلمة الكفر خطأ كأن يقول من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك.

فهكذا يبين أهل السنة مسألة الكفر في باب النوع ومسألة التكفير في باب المعين، أما الحكم على النوع فيفرقون به بين اﻷمور الظاهرة واﻷمور الخفية وكلما كانت المسألة أكثر ظهورا كالذي ينافي الإيمان من جميع الوجوه كلما اشتد ارتباط المعين بالنوع فلا ينفك هذا عن هذا خلافا للمرجئة والأشاعرة وغيرهم من المتكلمين وإذا كانت المسألة خفية وجب التمييز بين النوع والمعين ويشترط في هذه اﻷمور أن تتوفر الشروط وأن تنتفي الموانع، وكلما كانت المسألة أخفى كلما احتاج اﻷمر إلى الراسخين من أهل العلم ﻷنه كلما دق اﻷمر كلما احتاج إلى الفقه الأدق والعلم الأوسع خلافا للمعتزلة والخوارج الذين لا يفرقون بين النوع و المعين ولا الإيمان المطلق ولا مطلق الإيمان ولا بين الشعب المكفرة وغير المكفرة فالكل عندهم سواء لأن الكفر لا يتجزأ ولا يتبعض.

ويقابلهم المرجئة فلا يحتجون في المسائل الظاهرة البينة وهي كالشمس ويدعون أنه يجب أن يُرجع في ذلك إلى أهل الرسوخ من العلماء الكبار والمؤسسات الشرعية زاعمين أن موضوع التكفير خطير جدا وصعب كثيرا ولا يستطيع الولوج فيه إلا أساطين العلماء وعباقرة الفقهاء، وهذا الأمر صحيح إذا كانت المسألة خفية بل هي من أوجب الواجبات إذا كانت دقيقة، أما إذا كانت المسألة في غاية الوضوح فلا تحتاج الى هذه الجعجعة الفكرية ولا البلبلة العلمية لأن الأمور البينة كإنكار وجود الرب أو أن النبي لم يرسله الرب أو أن الكتاب المنزل ليس منزلا من عند الرب فهذا الكفر يعرفه الكبار والصغار والعلماء والطلاب والعوام ومن ادعى غير ذلك كمن قال إن تحريم الخمر والزنا والربا والسرقة أمور لا يجوز أن نقول بتحريمها وإنما هذا أمر يوكل إلى أهل العلم الكبار والمؤسسات الشرعية والسبب في هذا الخلط هو عدم التفريق بين الأمور الظاهرة والأمور الخفية فغلا أقوام وجفا آخرون وهدى الله أهل السنة والجماعة إلى ما اختلف فيه من الحق باذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

كما أنه لا يحق للخوارج والمعتزلة أن يعتبروا مسائل الشرع واحدة فيكفروا في كل الأبواب بنفس الطريقة فيفتحون المجال للبحث في أمور خفية وربما كانت أخفى تحتاج إلى العلماء الكبار والمؤسسات الشرعية للبث في ذلك فيطلقون الكفر الأكبر من غير ميزان دقيق ولا فهم سليم.

فيقع بذلك الخلل الكبير عند الطرفين الغلاة والجفاة وتَردُ عليهما مسائل يتناقضون فيها تناقضا شنيعا ويخالف آخر كلامهم أوله ويصادم بعضهم بعضا لأن الأصول فاسدة والقواعد مبتدعة فبدهي أن تكون النتائج قبيحة والأقوال شنيعة.

اﻷمور الظاهرة وهي ما ثبت بالمحكمات البينة وبالدﻻﻻت القطعية أو كان معلوما من الدين بالضرورة أو ما كان اﻹجماع فيه متيقنا وبعضها أظهر كالذي يخالف اﻹيمان من جميع الوجوه.

فاﻷصل في اﻷمور الظاهرة هو عدم العذر بالجهل والتأويل والتقليد والخطأ، فلا يمكن الخروج عن هذا اﻷصل إﻻ ببينة قطعية وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.

ويستثنى من ذلك من نشأ في بادية نائية أو كان حديث عهد بكفر أو في اﻷزمنة والأمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة رحمة من الله بعباده وتحقيقا لحكمة الله المطلقة.

أما اﻷمور الخفية فاﻷصل فيها أن يعذر المرء بالجهل والتأويل والتقليد والخطأ حتى تقام الحجة على الخلق وذلك بتحقق الشروط وانتفاء الموانع.

فأما مراعاة النوع فهو لصيانة الشريعة وحفظ جناب التوحيد وتعظيم قدر النبي عليه الصلاة والسلام وأن ﻻ يستهان بهذا الدين وأن ﻻ ينتقص الناس كتاب رب العالمين ولا سنة سيد المرسلين وأن تظل الشريعة مكرمة، فيجب مراعاة النوع من هذه الحيثية، وهذا هو العدل فالشريعة عدل كلها.

وأما مراعاة المعين فصيانة للدماء واﻷموال واﻷعراض وحفظا لكرامة المسلم حتى ﻻ تخترق حرمته إﻻ بحق وهذه هي الرحمة فالشريعة رحمة كلها.

لكن المعين إذا اخترق حرمة الشريعة وأساء إلى النبوة وطعن في كتاب ﷲ عز وجل فهو قد خرق حرمة الشريعة التي جعلت لدمه وعرضه وماله حرمة فيكون جزاؤه أن تخرق حرمته وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات واﻷرض “ﻻ يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والزاني المحصن والتارك لدينه المفارق للجماعة”، فهذا الذي طعن في القرآن الكريم أو أساء إلى النبي الأمين أو وصف الشريعة المنزلة بأقبح الأوصاف لا شك أنه ترك دينه وفارق جماعة المسلمين فزالت عنه الحرمة وهذه هي الحكمة فالشريعة حكمة كلها.

فالغلاة من المعتزلة والخوارج راعوا حرمة الشريعة وعظمة القرآن ومقام النبوة وجناب التوحيد وهذا أمر صحيح إﻻ أنهم لم يلتفتوا إلى حرمة المعين وﻻ إلى دمه وماله وعرضه بحال، وقابل المرجئة واﻷشاعرة والمتكلمون غلو الغلاة بجفاء كبير فراعوا حرمة المسلم ودمه وعرضه وماله فسقطت في أعينهم حرمة الشريعة والتوحيد والقرآن والنبي عليه الصلاة ولسلام وهذا جفاء شديد وابتداع مقيت، أما أهل السنة والجماعة فأعطوا لكل ذي حق حقه من تعظيم الشريعة والقرآن والتوحيد والنبوة كما أعطوا حرمة للمؤمن التي هي أعظم من حرمة الكعبة ما لم يخترق هذا اﻷصل اﻷصيل الذي هو تعظيم الشريعة، فأعطوا النوع حقه والمعين حقه فجمعوا بين الحسنيين وخرجوا من بين فرث الغلاة ودم الجفاة لبنا خالصا وتوحيدا صادقا وإيمانا نافعا وتوسطا شرعيا وإعطاء كل ذي حق حقه.

وسبب استقامة أهل السنة في ذلك وغيره التزامهم أصولهم في باب مسمى اﻹيمان ومسمى الكفر واتزانهم في التكفير مراعين الضوابط الشرعية واﻷصول المعتبرة وقد سبق بيان شيء من ذلك، أما الغلاة والجفاة فأصولهم أن اﻹيمان ﻻ يتجزأ وﻻ يتبعض وﻻ يزيد وﻻ ينقص ولم يفرقوا بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان وﻻ بين اﻷمور الظاهرة واﻷمور الخفية ولم يعذروا من هو أهل للعذر أو عذروا الجميع فبديهي أن يكون موقفهم من النوع والمعين تابعا ﻷصولهم فلم يفرقوا بين القول والقائل والفعل والفاعل فجمعوا بينهما غلوا من أقوام وجفاء من أخرين وهدى ﷲ أهل الحق وهم أهل السنة والجماعة وأئمة الحديث وفقهاء اﻷمصار إلى التفريق بحق بين النوع والمعين واﻷمور الظاهرة واﻷمور الخفية وتوفر الشروط وانتفاء الموانع وأن الإيمان شعب وأن الكفر شعب وميزوا بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان كما أنهم اعتبروا الإيمان يتجزأ ويتبعض وما إلى ذلك من اﻷصول المعتبرة والقواعد المتينة وهذا هو السبب في ضلال المعتزلة والخوارج في باب الكبائر فكفروا بكل كبيرة أو جعلوها في منزلة بين المنزلتين، كما أنه السبب في انزﻻق المرجئة والمتكلمين بعدم التكفير إلا بالتكذيب والجحود فقط.

وفيما يتعلق بالمعين إذا توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع وكانت الأمور من المسائل الظاهرة القطعية يحكم على المرء بالكفر الأكبر المخرج من الملة.

بعد هذا العرض في موضوع النوع والمعين وقد اتضح مذهب سلف الأمة وأئمتها وانكشف منهج أهل الحق وهو وسط بين الغلاة من الخوارج والمعتزلة والجفاة من المرجئة والجهمية، فلا بد أن نشير إلى مسألة إستثنائية وهي دقيقة جدا لم يفهمها الكثير من المشتغلين بمسائل الإعتقاد بل شنع بها أهل الأهواء والبدع على أصحاب الحديث واعتبروهم يتلاعبون بالقواعد ويراوغون تعصبا لأئمتهم وعلمائهم، لكن بعد التحقيق يتبين أنها مسألة علمية أصيلة مرتبطة بقواعد المحدثين الإعتقادية وأصول أئمة السنة في مسمى الإيمان ومسمى الكفر.

فالكثير من العلماء الكبار من أصحاب الحديث والفقهاء الصادقين من أئمة السنة الذين تفانوا في خدمة الحق وأوقفوا أعمارهم لنصرة السنة النبوية قد اشتبه عليهم الامر القطعي والمسألة الظاهرة فكان في حقهم أمرا مشتبها غير محكم، ولا سيما أن المعلوم من الدين بالضرورة أمر نسبي إضافي قد يكون في زمان ما أو مكان ما حيث تنطفئ أنوار النبوة أمرا غير معلوم بالضرورة كما أن بعض الأشخاص مهما عظم شأنهم وكثر علمهم قد تشتبه عليهم مسائل وهي في ذاتها معلومة من الدين بالضرورة فتكون في حقهم غير معلومة بالضرورة، وهؤلاء الأشخاص يعرف من حالهم تعظيم الشرع ومحبة السنة وبغض البدعة والحرص على معرفة الحق مع استفراغ الوسع فيقعون في المحذور والكمال عزيز، فينظر إلى هذا الأمر الجزئي من خلال منظار كلي، فيكون الحكم عليهم بالعدل لا بالهوى وبالحق لا بالتلاعب.

فعندما يذكر أهل الأهواء والبدع أقوالا منسوبة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية كمسألة تسلسل الحوادث في الماضي وقد شنع المبتدعة على شيخ الإسلام والزموه بالقول بقدم العالم وهي مسألة كفرية ظاهرة تنافي الإيمان من جميع جوانبه ومجمع عليها إجماعا متيقنا فأهل العلم عندما يدافعون عن ابن تيمية لا بدافع الهوى ولا أن حبك الشيء يعمي ويصم، لا بل يدافعون بالعلم الشرعي الأصيل فيقولون هناك جواب مجمل وجواب مفصل، والجواب المجمل هو الذي يهمنا في هذا الباب وهو أن شيخ الإسلام ابن تيمية إمام في التوحيد والسنة كان حربا على البدع والأهواء وكان معولا هدم الفلسفة وعلم الكلام فكيف يقع في مسألة كفرية فلسفية وهو ينكر الفسلفة جملة وتفصيلا، فيُغلّب علمه وتوحيده واستقامته ودينه على البدع والأهواء والردة والإلحاد.

أما الجواب المفصل فلا علاقة إطلاقا بين موضوع تسلسل الحوادث في الماضي وبين موضوع قدم العالم البتة، وقد ذكر فصولا في كفر من قال بقدم العالم، وإنما مذهبه رحمه الله رحمة واسعة أنه ما من مخلوق إلا وقد سبق بمخلوق، فإذا كان إسمه جل وعلا الآخر لا ينافي خلود أهل الجنة في الجنة ولا أهل النار في النار لأن المخلوق هو باق بالله لا بنفسه أما الحق جل وعلا فهو باق بنفسه لا بغيره فكذلك إسمه الأول لا ينافي أنه ما من مخلوق مربوب مقهور ضعيف بين يدي الأول سبحانه وتعالى، فتسلسل الحوادث في الماضي موضوع وقدم العالم موضوع آخر والفرق بينهما كما بين السماء والأرض، فأهل العلم يهمهم في هذا الباب الجواب المجمل وكيف يراعى علم الرجل وتوحيده وسابقته فيفسر الكلام على أصوله الصحيحة وقواعده السليمة فإذا تعذر يرد عنه ذلك القول ويبقى إماما عالما كبيرا له حرمته وفضله وسابقته.

ومن ذلك أيضا أنه قال في إحدى المعارك ضد المغول والتتار بأعلى صوته وامحمداه فعاب عليه بعض من لا معرفة عنده ولا دراية، وهذا الباب معروف في لغة العرب بالندبة كقول القائل وا معتصماه وا إسلاماه وما إلى ذلك مما لا علاقة له بالإستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله، مع العلم أنه كما سيأتي في موانع التكفير وهو العذر بالخطأ فقد يخطئ الرجل فتقع منه فلتة اللسان من شدة الفرح أو الغضب أو الخوف أو الغيرة ما ينعدم معه التمييز.

فيدافع علماء السنة عن ذلك دفاعا شرعيا فينكرونه أو يتأولونه أو يجدون له مخرجا فيقول أهل الأهواء والبدع إن هذا ضربا من التعصب للرجال والتحزب للمشايخ وهذا غير صحيح لأن الدافع إلى الإنكار أو التأويل هو معرفة أهل العلم بصحة أصول هؤلاء الأئمة وسلامة معتقدهم وأنهم أئمة هداة وعلماء ثقاة في نصرة الحق وخدمة السنة النبوية والذب عن فهم سلف الأمة، فالتأمل في كلامهم ودراسة أقوالهم وهي مسألة علمية دقيقة لأنها ربط للفروع بالأصول والمشتبهات بالمحكمات، فيتجرأ أهل الأهواء والبدع ويصفون علماء الحديث وفقهاء السنة بالتعصب المذهبي والتحزب للشيوخ وهو مناقض لأصول أهل الحق وهم أهل السنة والجماعة وفقهاء السنة وأئمة الأثر.

مثال ذلك أن ابن حبان البستي رحمه الله قال ان النبوة مكتسبة وهذا الامر في غاية البطلان بل هو كفر بواح لنا فيه من الله برهان، فلم يتجرأ أحد العلماء على تكفير هذا الإمام وإنما شنعوا عليه وخطؤوه والسبب في ذلك أن الرجل إمام من أئمة الحديث وعالم من علماء السنة قد استفرغ الوسع في طلب الحق وكان قصده حسنا ولم يُقبل منه غلطه ورد عليه أهل العلم خطأه لكنهم لم يكفروه البتة رغم أنها مسألة في غاية الظهور والبيان وحاول الحافظ الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء أن يجد له مخرجا حتى يعد الأمر قولا مبتدعا وكلاما قبيحا لكنه لا يكفر بحال.

والغزالي صاحب الإحياء رحمه الله قال كلاما كثيرا قبيحا لكن أهل العلم بدّعوه في ذلك ولم يكفروه.

من ذلك قوله والسماع أي الصوفي أفضل من القرآن من سبعة أوجه وهذا من أقبح الكلام وأشنعه بل القرآن أعظم وأجل وأكمل وأتم ولا يساوي السماع أي سماع الصوفية شيئا أمام عظمة القرآن، وله كلام كثير قبيح مما يُطوى ولا يُروى والله يغفر له ويسامحه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومن ذلك أن شيخ الاسلام الهروي رحمه الله صاحب منازل السائرين قد قال كلاما هو أشبه ما يكون بكلام أصحاب وحدة الوجود وهي مقالات كفرية بينة ظاهرة.

ما وحد الواحد من واحد***** إذ كل من وحده جاحد

فهذا الإمام كان حنبليا وكان من غلاة مثبتة الصفات كما وصفه الحافظ الذهبي وله كتاب )ذم الكلام( في مجلدين بين فيهما مذهب السلف الصالح بقوة الدليل ونصاعة الحجة مما جعل أئمة السنة كابن تيمية وابن القيم والحافظ الذهبي وغيرهم يعدونه شيخ الاسلام وحاول ابن القيم توجيه هذه الأبيات وهي على العموم أبيات باطلة إلا أنه ليس من القائلين بوحدة الوجود والمانع من ذلك كونه مثبتا للصفات مناصرا لمذهب السلف الصالح ويستحيل أن يكون الرجل معتقدا بالإستواء كما يليق بجلال الرب وبالنزول كما يشاء الرب ثم يكون حلوليا فهذا محال، فكان حسن اعتقاده وسلامة توحيده مانعا من أن يوصف بأنه من دعاة وحدة الوجود رغم أن كلامه صريح في ذلك، وإن ربط الكلام بأصول الرجل وقواعده ومنهجه وما سار عليه في حياته كلها تفهم كل أقواله المشتبهة على ضوء أقواله المحكمة وإذا تعذر الجمع يرد عليه الفرع الذي أخطأ فيه ويبقى الحكم الأصلي لما عرف عنه وعاش به وتفانى في خدمته.

والمحدث المشهور ابن الجراح الذي روى حديثا باطلا في أن النبي صلى الله عليه وسلم اخضر بعد موته وغضب أهل مكة عليه وحبسه الوالي ثم تدخل ابن عيينة الإمام وكان بينهما وحشة فقال لوالي مكة إنما روى ما سمع فاطلقه والي مكة وذهب الى المدينة فكتب أهل مكة الى أهل المدينة بخبره فخرج الداوردي المحدث الكبير إليه في الطريق وطلب منه أن يرحل الى العراق بلده وقال اذا دخلت المدينة قتلك أهلها، فهذا إمام من أئمة الحديث روى هذا الخبر الغريب ولم يكن قصده ذم النبي صلى الله عليه وسلم ولا التنقيص منه لإن ذمه صلى الله عليه وسلم والتنقيص منه كفر باجماع المسلمين، فهل كان ابن عيينة وهو إمام عظيم ليرضى أن يطعن في نبي الإسلام وهو يعلم أنه كفر صراح وهل خرج الداوردي ليأمره أن يذهب إلى بلده رضا بالكفر، حاشا وكلاّ ولكنهم علموا صدقه وخدمته للحديث وذبه عن السنة لكن بعض أئمة الحديث كان مشغوفا بالغرائب فروى ما سمع وإن كان هذا الحديث من المناكير المعروفة بل ومن القبائح المكشوفة.

ومن ذلك أن معاوية الضرير روى حديثا في مجلس الرشيد في أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن موسى لقي آدم فحج آدم موسى، فقال أحد الجلساء وكان قريبا للرشيد أين لقيه؟ فغضب الرشيد غضبا شديدا وقال عَليَّ بالنطع فهذا يرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسي فتدخل معاوية الضرير المحدث الكبير وشفع له وقال إنما يسأل مستفسرا لا معاندا حتى هدأ روع الرشيد.

ومن ذلك أن الأبيات الموجودة في همزية البوصيري وهي أبيات شركية وأقوال كفرية فلم يكفره أئمة الدعوة النجدية رغم اعتقادهم بطلان تلك الأبيات وفيها ما يناقض التوحيد وهي من الأمور الظاهرة في باب الشرك الأكبر، وهو عين ما حصل للعديد من الشعراء الذين يوجد في شعرهم من الكلام القبيح والشعر الساقط الذي ينافي التوحيد الخالص فكان المانع هو أن الشعراء يقولون مالا يفعلون.

والفرزدق لما أنشد شعرا بين يدي الخليفة سليمان بن عبد الملك يتغنى بالزنا قال له الخليفة قد اقررت على نفسك بالزنا وأنا الخليفة فسأقيم عليك الحد قال لا تستطيع يا أمير المؤمنين قال وَلمَ قال لأن الله تعالى يقول والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون فسكت الخليفة.

فالشعراء قد يتسع خيالهم اتساعا كبيرا فيتجاوز عن الكثير من ذلك إلا من عرف بالزندقة والكفر والإلحاد أو من شابه أولئك.

والقاضي عياض رحمه الله وهو من أئمة الإسلام العظماء قال في ترتيب المدارك إن الإمام للمذهب كالنبي مع أمته وهذا من أقبح الكلام وأشنعه لكنه يفسر بما يليق بهذا الإمام العظيم.

والرازي كفره ابن تيمية لما ذكر عن النجوم وقال لعله تاب من ذلك ولم يكفره غيره رغم أن كلامه كفر صراح وشرك بواح.

ولهذا الاستثناء في باب المعين في الأمور الظاهرة البينة قواعد وأصول وضوابط وشروط لا يمكن أن يتخذها أهل البدعة سبيلا إلى تبرئة أئمتهم الغارقين في البدع والأهواء المخالفين للكتاب المختلفين في الكتاب المتفقين على مخالفة الكتاب.

كما يجب أن نلاحظ في أمر المعين المسائل التي يؤاخذه العلماء فيها فلا نخلط بين هذه الأمور فمثلا أبو حنيفة النعمان الإمام الأعظم رحمه الله رحمة واسعة، نجد أن أهل العلم يؤاخذونه في ثلاث مسائل رئيسية:

  • الأولى أنه لم يكن بالحافظ المتقن للحديث فكان في ضبطه للحديث ما أخره عن الثقات المشاهير.
  • ثانيا أنه كان من أهل الرأي والقياس الذي يرد به أحيانا بعض أحاديث الآحاد.
  • ثالثا كان من مرجئة الفقهاء.

فلا يجوز الإتيان بأقوال من ردوا حديثه لعدم ضبطه وهذا قطعا لا ينافي عدالته فابن المبارك وهو من يعظم أبا حنيفة ويقول عنه كل الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة وتبعه على هذا القول الشافعي رحمه الله فمحو ابن المبارك لأحاديث أبي حنيفة كانت للسبب الأول وهو ضبط الإمام أبي حنيفة وهو لا ينافي عدالته التي يعرفها له أئمة الإسلام وعلماء الملة.

كما أن قوله بالرأي والقياس فقد قال به كثير من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بل عرف في مذاهب أخرى وهذا لا يمس عدالة الإمام في شيء.

وأما أنه من مرجئة الفقهاء فهذه بدعة من البدع.

وهذه الأمور لم يسلم بها فقهاء المذهب الحنفي ولا محدثوه وذكروا أدلة قوية في إبطالها كما ذكر المحدثون أدلة قوية في إثباتها.
وهذا الاختلاف يجب مراعاته في دراسة الرجال والأقوال والمذاهب وغير ذلك.

والمقطوع به أنه لم يكفره أحد من علماء الإسلام قديما ولا حديثا وقد أجمل الحافظ ابن حجر القول فيه بأنه فقيه مشهور.

وإذا تتبعنا الأمة كلها قائلين أنه يوجد من كفره، فقد وجد من كفر كبار الصحابة وأعلام الأمة وركائز الملة رضوان الله عليهم لكن الشأن ليس في تكفيرهم فهذا يسير على من لا علم له ولا ورع ولكن الشأن في إثبات ذلك بالحجة البينة والبرهان القاطع وهيهات هيهات.

فالعلم الشرعي يكون بالسهر والحرص والدراسة والعمل الدؤوب لأن لكل قاعدة استثناء مقبولا وشذوذا مرفوضا وفي هذا الإستثناء من التداخلات الكثيرة والتشعبات الدقيقة ما يشيب له الولدان فكن من هذا على ذُكر.

وهنا نتكلم عن شيخنا العظيم أبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني الإمام العلم والجهبذ الفقيه والآية الكبرى في هذا الزمن الذي عمت فيه البدع وسادت فيه الأهواء وغَيّر الناس فيه الحق وبدلوا الدين فنصر الله به السنة نصرا مبينا وأعز الله به الحق فكان فتحا عظيما فجزاه الله عن الإسلام والسنة خير الجزاء، وقد عاش في أرض الشام زمنا طويلا يناطح فيه كبار المبتدعة ويناظر فيه أئمة الضلال وكانت الردود بينهم في الكتب المطبوعة ما يشهد بإمامته وتقدمه ومعرفته بالسنة وعلومها وفقهها واعتقادها وكان رحمة الله عليه معلمة للتوحيد ضد الشرك والقبورية والخرافة والشعوذة والأضرحة والمشاهد رفع الله درجته في عليين وأسكنه الفردوس الأعلى.

فشيخنا رحمه الله فاته في باب مسمى الإيمان ومسمى الكفر أشياء كثيرة وأخطأ في هذا الموضوع خطأ لا يليق به الله يغفر له ويسامحه ويرفع درجاته في الجنة.

وإن عدم فهم المعين إذا كان معروفا بالسنة والتوحيد إذا اخطأ في مبحث من المباحث وقد قال صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران واذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.

وهذا من عدل الشريعة وهو الأجران، ومن رحمة الشريعة وهو الأجر الواحد ومن حكمة الشريعة أن يفتح باب الإجتهاد لمن توفرت فيهم الشروط ولا يخافون المؤاخدة بالخطأ.

وقد ترتب على سوء فهم هذه المسألة ظهور طرفين متقابلين.

طرف يدافع عن هذا النموذج من الرجال حتى في الخطأ البين وهذا لا يجوز بحال لأنه من التعصب المذهبي والتحزب للرجال وهو عين ما رفضه أئمة الحديث وفقهاء الأثر.

وطرف يطعن في أهل العلم ولا يعذرهم بحال ويصفهم بمعاداة السنة والانحراف عن جماعة المسلمين وهذا من الظلم البين والكذب الصراح وأين ميزان الإعتدال؟ بل أين لسان الميزان؟

والعدل والإنصاف بين الطرفين وهو الشهادة للعلماء الكبار من أهل السنة والجماعة بالإمامة في الدين، لكننا لا نقبل منهم الخطأ فإن وجدنا مخرجا فبها وإلا فلا يعول عليه أنّى كان قائله ومهما عظم شأنه وعلت درجته لأنه كما قال ابن القيم رحمه اه ا في شيخ الإسلام الهروي صاحب منازل السائرين “شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه” وهذا جمع بين الحسنيين وهي الحكمة الشرعية والرحمة الربانية والعدل الإلاهي.

فالمعلوم من الدين بالضرورة قد يغدوا في بعض الأزمان أمرا مشتبها فقد قال صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي على الناس زمان لا يعرفون صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا وهؤلاء تنفعهم لا إله الا الله لأنهم لا يملكون غيرها فكل هذه الشروط الشرعية تسقط في حق المعين رغم أنها من الكفريات الظاهرة البينة بسبب الجهل العام الذي أصاب المسلمين والأزمنة والأمكنة انطفأت فيها أنوار النبوة فيتغير الحكم بسبب ذلك، لأن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما فاذا زالت العلّة زال الحكم وهذا من مرونة الشريعة وتوازنها لأن الشريعة عدل كلها حكمة كلها رحمة كلها.

ومن ذلك أن الشريعة عذرت ذلك الذي أمر أن يحرق إذا مات قائلا لئن قدر علي ربي ليفعلن بي كذا وكذا وأنفدوا وصيته فلما وقف بين يدي الله قال ما حملك على ما صنعت قال خشيتك يا رب فغفر الله له.

فهذا قد أتى بكفريات كثيرة لكنه إما نشأ في بادية نائية ولا أدل على ذلك من أن ينفذ أبناؤه وصيته لكونها وصية جائرة قبيحة، أو كان حديث عهد بكفر أو كان في أزمنة وأمكنة انطفأت فيها أنوار النبوة فرحمه الله بسبب خشيته الشديدة التي أدت به إلى هذه الوصية الجائرة.

فهذه النصوص وغيرها وقائع أعيان واستثناءات تدور مع عللها حيث دارت لكنها ليست أصلا من الأصول فلا يجوز أن يتخذها المرجئة أدلة يبطلون بها القطعيات لأن هذه النصوص يجب أن ترد إلى المحكمات لأن كلما عاد على الأصل بالإبطال فهو باطل.

فاذا عرف الرجل بالعلم وحسن القصد واستفراغ الوسع وكانت المسألة في حقه من المتشابهات وكانت الأزمنة والأمكنة قد انطفأت فيها أنوار النبوة أو نشأ في بيئة مظلمة بالبدعة الغليظة أو الكفر البين فكل هذه من الموانع في حق المعين في الأمور الظاهرة البينة.

وهذا من الاستثناءات التي تراعى بقدرها وليست مبطلة لهذه الأصول العظيمة.

فمراعاة أصحاب الحديث للأئمة عند وقوعهم في هذه المخالفات وليس من باب الهوى إطلاقا ولكنه علم نافع وحجة قاطعة لأنهم يحكمون عليهم من حيث أصولهم فيردون المتشابه الى المحكم واذا استحال ذلك بحثوا عن مخرج فان لم يجدوه خطؤوه في تلك المسألة ولم يصفوه بكفر ولا بدعة ولا خروج عن جماعة المسلمين وإنما هو عندهم مما يُطوى ولا يُروى والكمال عزيز فيجمعون بين الحسنيين في حق من هو أهل لذلك من العلماء الكبار والأمة المشاهير والعباقرة المتقنين.

ولدقة هذه المسألة يعتبرها البعض هدما لكل ما سبق ذكره وهذا الأمر غير صحيح لأنه تعامل مع قضية جزئية في إطار كلي، ولأن “أجبن” هذا منهج فيه الورع والتتبث والشهادة بالحق فليست هذه الكلمة من الإمام احمد ابن حنبل عبارة عادية وإنما هو منهج للشهادة على الرجال بالبدعة أو الفسق أو الكفر.

كما أن هذا الأمر سيبين الأساس الذي انبنى عليه مواقف العديد من الدعاة والعلماء فعندما نقول العمل من مسمى الإيمان وأن من خالف ذلك فقد ابتدع في الدين ثم يسمع الناس مدح الكثير من العلماء والمشايخ لمن وقع في شيء من ذلك فيعتبره البعض تناقضا صراحا وآخرون يعدونه نفاقا بواحا كما يسميه البعض اضطرابا وعدم وضوح الرؤية وما إلى ذلك، فيتبين الآن للطلاب والباحثين بل وللعلماء والمشايخ أن الكلام عن المعين فيه فروع ودروب ومسائل ودقائق وأغراض وحقائق ولله في خلقه شؤون وذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله واسع عليم.

الحادي عشر: اﻷصول والفروع

لقد حاول الكثير من أهل اﻷهواء والبدع أن يخلطوا بين موضوع الأمور الظاهرة واﻷمور الخفية مع باب اﻷصول والفروع والفرق بينهما شاسع جدا لكن غرض أهل الأهواء والبدع هو التشويش والبلبلة حتى لا يعرف الناس وجه الحق فيكون رؤوس البدع مسؤولين بين يدي الله عز وجل عن ضياع الناس وصدهم عن سبيل الله.

والأصول والفروع تختلف باختلاف مناهج البحث وطرائق العلم فهي لها معان عند الفقهاء والأصوليين ولها مفاهيم عند المتكلمين أو أهل الإعتزال.

أما اﻷمور الظاهرة فهي المحكمات البينات التي ﻻ تحتاج إلى نظر ولا الى تأمل من العلم الضروري واليقيني الذي يدرك ببداهة العقول، أما اﻷمور الخفية وهي المسائل النظرية التي ﻻ بد فيها من التأمل والنظر وبعضها أدق من بعض فتحتاج إلى نظر أعمق وتأمل أغوص، وقد بينا ذلك بيانا شافيا فيما سبق ذكره عن الأمور الظاهرة والأمور الخفية، والذي نريد تأكيده في هذا الباب هو انعدام الصلة البتة بين موضوع المسائل الظاهرة والخفية وموضوع الأصول والفروع حتى لا يجد أهل الأهواء والبدع مجالا للخلط لفتنة الناس وصدهم عن سبيل الله بغير حق، لأن سلاح المبتدعة وأهل الأهواء هو لبس الحق بالباطل والتحريف بعد ما عقلوه والإفتراق بغيا وعدوانا بعد ما جاءهم العلم.

أما موضوع اﻷصول عند المتكلمين من الأشاعرة وعند المعتزلة فهي أول واجب على المكلف أي النظر أو القصد الى النظر فقد وضعوا أصولا غريبة يطالبون بها المرء لأن يكون مؤمنا مع أن مرحلة البلوغ لا يكون فيها المرء مؤهلا فكيف إذا صاحبه الجهل أو نشأ في مجتمع بعيد عن أنوار النبوة، أضف إلى ذلك أنها معقدة تعقيدا شديدا وغامضة غموضا غريبا ويشترطون رغم دقتها أن يكون كل مسلم على علم بذلك وإلا فلا إيمان له، فيكفرون المسلم بقواعد مبتدعة ليست في كتاب الله ولا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام ويدعون تكفير من كفره بواح وشرك صراح.

وقد توسط بعض فقهاء المتكلمين ومحدثوهم ممن غلب العلم الشرعي عندهم مباحث الكلام فلم يكفروه وإن كانوا لم يرفعوا عنه المؤاخذة، وكلامهم مضطرب غاية الإضطراب لأنهم حاولوا الجمع بين نصوص الشريعة الهادية المهدية والقواعد المبتدعة الضالة المضلة.

هذه الأصول انتقدها أئمة السنة وعلماء التوحيد وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي اعتبر كل ذلك سواء عند الفلاسفة أو المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة اعتبر ذلك من الخيالات والجهالات والقول على الله بغير علم، فالذي ينقل كلام العلماء في إبطال موضوع الأصول فعليه أن يحدد الأصول عند المتكلمين، فقد بلغ بهم الأمر إلى اعتبار العقل اساسا كبيرا في مسائل الإعتقاد وأنه شهد للنقل فلا يجوز أن يعارض النقل العقل وإلا فهو طعن في النقل نفسه وبالتالي فالنقل يجب أن يكون تابعا للعقل فيُؤول تأويلا ولو كان بعيدا أو يُلغى كأحاديث الآحاد، والمهم أن أصل الأصول وأساس الإيمان هو العقل والمعتزلة أشد في الباب من غيرهم من المتكلمين وقد وافقهم متأخروا الأشاعرة على الكثير من ذلك.

كما أن المتكلمين من الأشاعرة وغيرهم يعتبرون الأصول هو ما كان في باب الإعتقاد وأن الفروع ما كان في باب العمل.

وقد رد عليهم الأئمة الأعلام من أصحاب الحديث وفقهاء الأثر واعتبروا هذا التقسيم مبتدعا لأن الصلاة والزكاة والصوم والحج هي أمور عملية وهي لب الأصول لأنها أركان الإسلام وقواعده العظيمة.

وهناك مسائل كثيرة في باب الإعتقاد هي من الأمور الفرعية التي لا يتوقف عليها إيمان العبد كمسألة هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج.

فالذي أكده علماء السنة وبينوه أن الإعتقاديات فيها أصول وفروع والعمليات فيها أصول وفروع، والضابط للأصل هو أن يكون الأمر عظيما في الشرع وجليلا في الدين سواء كان اعتقادا أو عملا، فعندما نجد انتقادا من الأئمة لمسائل الأصول والفروع تكون في هذه الأبواب التي ذكرناها.

فكثير من الناس يقول إن التقسيم إلى أصول وفروع بدعة في الدين، وينسب ذلك إلى علماء التوحيد وأئمة السنة لكنه سوء فهم إذ ذكر أئمة الحديث رضوان الله عليهم أصول المتكلمين العقلية التي تستقي من فلسفة اليونان، كما أنهم عابوا على بعضهم جعل المسائل الإعتقادية أصولا والمسائل العملية فروعا، فإنكار العلماء لباب الأصول والفروع جاء بهذا الإعتبار.

فمسألة الأصول والفروع في الشريعة من الأمور البدهية التي لا تحتاج إلى استدلال، ولم ينكر ذلك أحد البتة من علماء التوحيد وأئمة السنة، لكنهم أنكروا اعتبار المسائل العقلية اليونانية هي الأصول والوحي المنزل والسنة الصحيحة فرعا فهذا من أبطل الباطل، كما أن اعتبار مسائل الإعتقاد أصولا والمسائل العملية فروعا هذا أيضا يخالف منهج أهل الحق وطريقة أئمة الدين.

فانتقاد اﻷئمة لموضوع اﻷصول والفروع هو انتقاد للأصول والفروع في تعريف المتكلمين وهي أمور ابتدعوها ﻻ دليل عليها من كتاب وﻻ سنة وﻻ إجماع وﻻ قول صاحب وبنوا عليها أحكام اﻹيمان والكفر فعاب عليهم علماء التوحيد هذا المسلك ﻻ أنهم أبطلوا موضوع اﻷصول والفروع كما يحلوا لبعض أهل الأهواء والبدع أن ينسبوه ﻷئمة التوحيد وعلماء الملة خلطا للأقوال وفتنة للعقول حتى يجعلوا من الأمور الظاهرة والأمور الخفية التي يتجلى فيها أمر التوحيد والإيمان وينكشف بها الحق والبيان فيتسنى للمبتدعة أن يتساهلوا في أمور كالذبح لغير الله ولبس الصليب والدخول به إلى معابد الكفار فيعذرون الناس بالجهل والخطأ والتقليد والتأويل وهذه من مصائب أهل البدع التي يُحلون بها الحرام ويُحرمون بها الحلال وينسفون الولاء ويهدمون البراء تلاعبا منهم بقواعد العلم الشرعي حتى يعيش المسلمون في جاهلية جهلاء وفتنة عمياء يشتري في هذه الأجواء أهل البدع والأهواء بذلك ثمنا قليلا ومجدا زائلا وجاها كاذبا.

قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران:187)

أما القول بأن المسائل الظاهرة والمسائل الخفية هي عين اﻷصول والفروع فهذا خلط شنيع، لأنه قياس فاسد مع الفارق البعيد.

وأما اﻻستدﻻل على رد المسائل الظاهرة والخفية بما رد به علماء التوحيد على اﻷصول والفروع عند المتكلمين فهذا خلط أشنع وابتداع أفظع وقد سلك الكثير من المبتدعة هذه الطرق لفتنة الخلق وصدهم عن الصراط المستقيم.

إذا فهي مواضيع ثلاثة جهاتها منفكة إنفكاكا بينا.

اﻷمور الظاهرة واﻷمور الخفية تتعلق بالدليل فكلما كان الدليل أظهر والحجة أقوى كلما كان اﻷمر ظاهرا، بل لم يتعرض أحد من العلماء المعتبرين ولو كان مخالفا لأهل الحق إلى إدخال المسائل الظاهرة والمسائل الخفية في باب الأصول والفروع، فالذين كتبوا في هذا الباب وطعنوا في موضوع المسائل الظاهرة والخفية بما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية عن الأصول والفروع فقد أبعدوا النجعة وضربوا أخماسا في أسداس ظنا منهم أنه لا حراس للحدود ولا حماة للتوحيد، فأطلق العديدون أقلامهم في مسائل التوحيد والإيمان من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:111)

واﻷصول والفروع عند أهل الحق هي كل ما جَلَّ وعَظُمَ من اﻷمور سواء في الإعتقاديات العلميات أو في العمليات واﻷحكام.

أما اﻷصول والفروع عند أهل البدع فبعضهم جعل كل اﻻعتقاديات أصوﻻ وكل العمليات فروعا وبعضهم أشد وأشنع وهم أهل اﻹعتزال ومن سلك مسلكهم من غلاة المتكلمين الذين جعلوا العقل أصل اﻷصول والنقل فرع عن اﻷصل وأنه لم يتبت اﻹحتجاج بالنقل إﻻ بطريق العقل فحكموا على النصوص القطعية في ثبوتها وفي دﻻﻻتها بالعقل فحرفوا وبدلوا وغيروا وعطلوا، ثم ازدادوا غلوا برد اﻷحاديث الصحيحة بزعم أنها آحاد بل وعطلوا المتواترة الصحيحة وظواهر القرآن بل ونصوصه القطعية بالتحريف والتعطيل بحجة أن العقل هو اﻷصل وما سوى ذلك هو الفرع، وثالثة الأثافي انهم جعلوا الإيمان والكفر تبعا لهذه الأصول الفاسدة فكفر أقوام بالباطل وامتنع أقوام عن الكفر الحقيقي بالزيغ.

فعلماء السنة عندما يهاجمون اﻷصول والفروع مهاجمة شديدة ويقولون أنها أمر مبتدع ﻻ يعرفه السلف وأن مآلها إلى ابطال الدين فمرادهم هذا المعنى اﻻعتزالي المتشبع بروح الفلسفة اليونانية والعقليات الإغريقية.

كما أنهم ﻻ يوافقون المتأخرين من المتكلمين الذين جعلوا كل اعتقاد من اﻷصول وكل اﻷعمال من الفروع فتصبح الصلاة والزكاة والصوم والحج من الفروع وهي لب اﻷصول في الشريعة المنزلة.

فالمعتزلة وبعض المتكلمين كمتأخري الأشاعرة يكفرون منكر القطعيات العقلية عندهم لكنهم لا يكفرون منكر القطعيات النقلية.
والكثير من المتكلمين يكفرون منكر الأصول وهي الإعتقادية عندهم ولا يكفرون منكر الفروع وهي المسائل العملية ولو كانت الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج.

فقد انعكست هذه الأباطيل على مسمى الكفر والإيمان إنعكاسا شديدا أصبحت القواعد العقلية اليونانية حكما على قطعيات القرآن الكريم ويقينيات السنة المتواترة.

فاعتراض أهل اﻷهواء والبدع عن اﻷمور الظاهرة والخفية بأنها من اﻷصول والفروع وأن هذا أمر ﻻ يعرفه السلف الصالح ولم يأتي به دليل شرعي اعتراض باطل منهم ﻷنهم قياس باطل مع الفارق البعيد واحتجاج بغير الباب وخلط بين أمور مختلفة وجهات منفكة وهذا دأبهم في اﻻعتراض على أهل الحق بالشبه الواهية والخياﻻت الزائفة والجهاﻻت المبتدعة من غير علم وﻻ هدى وﻻ كتاب منير، وغرضهم نصرة الباطل ورفع راية الشيطان والتمكين للشرك الأكبر ومحاربة التوحيد الخالص.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (الأنفال:36)

الثاني عشر: الأسماء والأحكام

يجب أن يراعي المرء في مسائل اﻻعتقاد والتوحيد والإيمان مسألة اﻷسماء واﻷحكام.

فأهل السنة والجماعة يقولون اﻹيمان قول وعمل وتقول المعتزلة والخوارج بأن اﻹيمان قول وعمل، فهذا اتفاق في باب الأسماء لكنهم يختلفون في اﻷحكام اختلافا كبيرا.

فالإيمان عند أهل السنة والجماعة يتبعض ويتجزأ، ويزيد وينقص وله شعب بعضها يخرج من الإيمان وبعضها لا يخرج من الإيمان ولا يكفر المسلم بالكبائر والموبقات إلا أن يستحلها، وهذه الأحكام كلها تناقض مسمى الإيمان ومسمى الكفر عند الخوارج والمعتزلة فالإتفاق في الاسم لا يلزم منه الإتفاق في الحكم، والعبرة بالحكم لا بالإسم.

وبناء على هذا فأهل السنة والجماعة ﻻ يكفرون بالكبيرة ﻷنها تدخل عندهم في فعل المحرم أو ترك الواجب، وﻻ يُكفر أهل السنة في باب اﻷعمال إﻻ من أخل بركن من أركان التوحيد أو أصل من أصول اﻹيمان.

كما أن موضوع اﻷمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند أهل السنة والجماعة قد يكون واجبا عينيا وقد يكون واجبا كفائيا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، أما اﻷمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة فهو الخروج بالسيف على ولاة الأمور وهذا ما لا يقبله أهل السنة والجماعة حفاظا على بيضة الإسلام وصبرا على المفسدة الصغرى خوفا من الوقوع في المفسدة الكبرى فاﻻتفاق في اﻻسم وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يلزم منه الاتفاق في الحكم وقد وضع علماء السنة وائمة الأمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروطا وضوابط وقواعد وأصولا تنافي ما ذكره المعتزلة في هذا الأصل المعتمد عندهم من الأصول الخمسة.

كذلك محبة أهل البيت وتعظيمهم ومعرفة أقدارهم عند أهل السنة يخالف ما عليه الروافض الذين يقولون بعصمة أهل البيت وعلمهم المطلق بما كان وما يكون وقدرتهم المطلقة في تدبير الأكوان فهذا شرك في الربوبية وتعطيل للألوهية ونفي لإفراد الرب جل وعلا في أسماءه وصفاته، فالإتفاق في الإسم وهو محبة أهل البيت وتعظيمهم لا يلزم منه الاتفاق في الحكم وهو وضع أهل البيت في موضع الربوبية والألوهية كما عليه زنادقة الروافض، وقول أئمة السنة والجماعة بأن الحسين بن علي رضي اهوَ عنه قتل مظلوما بالإجماع لا يلزم منه البدع والأهواء التي يعملها المبتدعة إلى اليوم من مصائب يوم عاشوراء والذكرى الأربعينية بعد عاشوراء واعتبار أهل السنة نواصب شاركوا في قتل الحسين رضي اه ج عنه وأنهم يطالبون بدمه الزكي رضي اهُد عنه فالأسماء لها مغزى والأحكام تتناقض بين أهل السنة وهم أهل الحق والروافض وهم زنادقة المبتدعة.

وعندما يقول المرجئة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم “من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة” فهم يعتقدون أن التصديق بالقلب والنطق باللسان يتحقق به التوحيد تحققا كاملا ولو لم يكن هناك عمل إطلاقا، أما أهل الحديث فيقولون هذه الكلمة العظيمة وحديث البطاقة وكلمة الإخلاص وكلمة التقوى وكل ما ورد في فضل التوحيد فالمراد به قول القلب وعمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح، فلا تكون كلمة الإخلاص على وجهها الكامل إلا بالتزام أن الإيمان قول وعمل، لأن لهذه الكلمة العظيمة شروط يجب التزامها ونواقض يتحتم اجتنابها وإلا فهي مفتاح بدون أسنان فلا قيمة له ولا ينتفع العبد بهذه الكلمة إلا بالتزامها إلتزاما صحيحا وإلا وقعنا في بدعة المرجئة وهي بدعة قبيحة تعود على أصل التوحيد بالإبطال.

وقد فهم الكثير من الناس بعض الأقوال المنقولة عن السلف فهما سيئا مثل قولهم من قال بزيادة الإيمان ونقصانه فقد برئ من الإرجاء فمعنى هذا الكلام من قال بزيادة الإيمان ونقصانه بالشروط الشرعية والضوابط الدقيقة فقد برئ من الإرجاء ولا سيما في أزمنتهم حيث كانت الخلافات واضحة، فكان معسكر أهل السنة يواجه معسكرات أهل البدع والأهواء وجها لوجه وكانت أصول كل فرقة واضحة تمام الوضوح، لكنه كلما طال العهد اختلطت الأمور وامتزجت المسائل وتلاقح الباطل مع أصول أهل الحق فوجب المزيد من البيان ولا سيما أنه في كل مبحث من مباحث العقائد قد عرف تطورات وتطورات فليكن أهل الحديث والسنة على بينة من كل ذلك.

مثال ذلك في مسألة الأسماء والأحكام أن الأشاعرة يقولون في باب الأسماء أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو اعتقاد في القلب وقول باللسان وعمل بالأركان، فهذا الكلام في باب الأسماء صحيح لكن في باب الأحكام عقيدة الأشاعرة في مسمى الإيمان ومسمى الكفر عقيدة المرجئة، لأن العبرة بالأحكام فهاهم الأشاعرة يخرجون العمل من مسمى الإيمان ويعتبرونه شرط كمال ولا يكفرون بالأعمال الكفرية المجردة حتى يصاحبها التكذيب والجحود وما إلى ذلك من موبقات المرجئة في مسمى الإيمان وفي مسمى الكفر، فلم يبق لتقعيدهم على مستوى الأسماء أي فائدة، والسبب الذي جعل الأشاعرة يذكرون ذلك هو تعظيم الناس للسنة وأصولها وقواعدها وما كان للأشاعرة والصوفية وغيرهم أن ينشروا مذاهبهم لولا اختباءهم بالسنة وتظاهرهم بلزوم طريقة السلف.

بل من يدرس مذاهب الأشاعرة في مسائل الإعتقاد فهم يقولون نصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل، لكنهم في أحكام الأسماء والصفات هم أهل تأويل وتحريف وتبديل وتغيير خالفوا ظواهر الكتاب والسنة الصحيحة بقواعد ابتدعوها وأصول اخترعوها وتاثروا بأهل التعطيل من المعتزلة وغيرهم رغم أنهم يدعون خلاف ذلك.

فموضوع الأسماء والأحكام في غاية الدقة فليس كل من ذكر موافقة لأهل الحق من حيث الإسم نعتبره على الحق حتى نعلم الحكم.

من ذلك أن الصوفية يقولون علمنا مقيد بالكتاب والسنة ولا نقبل واردا حتى يشهد له الكتاب والسنة ولهم أقوال كثيرة هي من صميم الحق في باب الأسماء لكنها في باب الأحكام بدع وضلالات وشطحات وفساد في الإعتقاد وعبادة للشيوخ أحياء وأمواتا ومصائب ومخازي وخاصة عند انقراض زمن الشيوخ الصالحين من السلف الأولين.

قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ۚ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ۗ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأعراف:169)

وكثيرون اليوم من أهل العلم وطلابه والباحثين يقولون العمل شرط كمال ويخرجون العمل من مسمى الإيمان ولا يكفرون العبد بعمل الجوارح ولو كانت أعمالا كفرية مجردة حتى يعتقد ذلك في قلبه إلى غير ذلك من المخالفات الشرعية في باب مسمى الإيمان وفي باب مسمى الكفر ثم يقولون إننا نقول إنه يزيد وينقص ويتجزأ ويتبعض فقد برئنا من الإرجاء وهذا الذي ذكروه يخالف الأحكام الحقيقية لأهل السنة والجماعة مع أنهم مطالبون بالتزام الأحكام لا بالوقوف عند الأسماء، ويكفيهم أن أقوالهم متناقضة ومذاهبهم مضطربة فهم في الظاهر أي في باب الأسماء مع أهل الحديث وفقهاء السنة وهم في الخفاء أي في باب الأحكام مع المرجئة والجهمية من الجفاة أو مع الخوارج والمعتزلة من الغلاة.

ومن ذلك قولهم من دخل في الإسلام بيقين فلا يخرج منه إلا بيقين، وهذا كلام صحيح لكن من حيث الأحكام ما هو اليقين عند أهل السنة والجماعة وما هو اليقين عند الخوارج وماهو اليقين عند المرجئة، فحرف المسألة ليست في الأسماء ولكنها في الأحكام.

وهنا يجب أن يقف الباحث طويلا أمام الكثير من المسميات الشرعية لأن العبرة بالأحكام مثال ذلك كلمة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحكيم الشريعة وإقامة الخلافة على منهاج النبوة والولاء والبراء وغيرها كثير.

هذه الأسماء لا يجوز شرعا إنكار أحكامها الشرعية المنبثقة من الكتاب والسنة بالمعنى الصحيح الموروث عن النبي عليه الصلاة والسلام بفهم سلف الأمة وأئمتها المهتدين وفقهائها المجتهدين لأنها جزء لا يتجزأ وأمر لا ينفك عن كتاب رب العالمين وسنة سيد المرسلين.

فإذا كانت هناك أحكام مبتدعة وأفهام سقيمة وضلالات موروثة فهذه باطلة ولا يجوز نسبتها إلى دين الله عز وجل.
لكن أن تتخذ هذه الأحكام الباطلة والأفهام السقيمة والبدع والضلالات سبيلا لرد الحق الموروث عن النبي عليه الصلاة والسلام هذه جريمة كبرى وفتنة عظيمة يسلكها أعداء الإسلام لضرب الإسلام بما الإسلام بريء منه.

أما نحن فسنعض على الحق المبين بالنواجد لأنه دين الله رب العالمين ولا نبغي به بديلا ولا نسمح في مثقال ذرة منه مع اننا نبرأ إلى الله من أقوال أهل البدع وأفهام أصحاب الفتن والأحكام الباطلة كما أننا لن نقبل البتة أن يرفض الإسلام كله وأن تنسب إليه هذه المعاني الباطلة وأن يوصف دين الله المنزل بالإرهاب والفتنة والفساد في الأرض فهذا أبطل الباطل وأقبح القبائح، فقد روج الكفار والمرتدون والمنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون هذه المسميات الشرعية الصحيحة بالمعاني أي بالأحكام الباطلة المبتدعة التي يبرأ إلى اهله منها كل مسلم صادق ومؤمن صالح.

فيجب أن يحذر المسلمون من بدع أهل الأهواء في الأحكام الباطلة للمسميات الشرعية إحقاقا للحق وإزهاقا للباطل.
كما أنه يجب على المسلمين أن يبطلوا أقوال الكفار والمرتدين والمنافقين الذين يصفون الجهاد بالإرهاب وتحكيم الشريعة بالتطرف وإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بالداعشية والتمسك بدين الله على الوجه الذي يرضيه بالظلامية فهذا كله من أبطل الباطل يريد به أعداء الله وأعداء رسوله تشويه الإسلام الحق والقرآن المنزل والشريعة المطهرة والنبوة المقدسة والألوهية العظيمة وهم يفعلون هذا عن تآمر ومكر وغدر وخديعة.

قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور:40)

الثالث عشر: الشروط والموانع

الشرط : ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، لذاته، وكان خارجًا عن الماهية، كالوضوء فهو شرط في صحة الصلاة فيلزم من عدمه أي الوضوء عدم صحة الصلاة ولا يلزم من أن الإنسان متوضئ وجود ولا عدم للصلاة فهو خارج عن ماهية الصلاة لكن لا يمكن أن تصح الصلاة إلا بوضوء.

المانع : ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، لذاته، والمانع كالحيض والنفاس فيلزم من وجودهما عدم الصلاة والصيام لكنه لا يلزم من عدم وجود الحيض والنفاس أي كون المرأة طاهرة وجود ولا عدم لصلاة أو صيام.

الشروط والموانع في باب التكفير

-أن يكون العبد مكلفا أي بالغا عاقلا، وأن يكون مخيرا لا مكرها، وأن يكون قاصدا القول أو الفعل لا مخطئا، وأن لا يكون متأولا وأن تبلغه الحجة بلوغا شرعيا.

-أن يكون العبد مكلفا والتكليف هو العقل والبلوغ، فإذا كان العقل مغيبا بجنون مطبق فقد سقط التكليف فلا يحكم على المرء بالكفر والردة ولو قال ما قال أو فعل ما فعل.

لكن العقل قد تعتريه أمور كمن كان يغيب تارة ويكون حاضرا تارة، فلا شك أن العبد مكلف إبان وجود عقله معه، فيؤمر العبد بالصلاة والصيام كما أنه ينفذ طلاقه وتقبل رواياته أثناء وجود عقله معه، لكن المراحل التي يكون العبد فيها مجنونا يسقط عنه التكليف، وقد يكون وقت العقل أطول من مرحلة الجنون وقد يكون العكس، كما أن الإنسان قد يقضي بضع سنوات مجنونا ثم يبرأ من مرضه ويحضر عقله معه فلا يحتج بكونه كان مجنونا إنما يرفع عنه التكليف لحظة الجنون طالت أم قصرت، وموضوع العقل وما يتفرع عنه يطول، وإنما المراد أن العقل شرط في التكليف.

وأما البلوغ للرجال والنساء فهو شرط للتكليف، وللفقهاء تفاصيل في ذلك، لكنه إذا تحقق البلوغ أصبح العبد ذكرا أو أنثى مكلفا بالصلاة والصيام والزكاة والحج، كما أنه يتحمل جميع المسؤوليات الشرعية، ومن ذلك باب الردة والكفر والإلحاد والزندقة، فالبلوغ كالعقل شرطان أساسيان لاعتبار العبد مكلفا.

وهناك تفاصيل عند الفقهاء للصبي المميز وغير المميز، وأنه كلما ناهز الصبي الإحتلام فقد جعل الفقهاء المسلمون لمن ارتد أو كفر قواعد وضوابط حسب أصول العلماء وقواعد الفقهاء.

أما الشروط الأخرى فسيأتي الكلام عليها من خلال الحديث عن الموانع الشرعية.

والموانع الشرعية قسمان موانع في النوع وموانع في المعين:

  • موانع النوع:

-من نشأ في بادية نائية
-من كان حديث عهد بكفر
-من عاش في اﻷزمنة واﻷمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة

  • أما الموانع في حق المعين في الأمور الخفية:

– الجهل

-الخطأ

-التأويل

-التقليد

-الإكراه

فالمسألة اﻷولى في الموانع في النوع وهي أن من نشأ في بادية نائية يجهل أمورا كثيرة في التوحيد واﻹيمان وقد يُخطئ أو يُقلد من سبقه بخلاف من كان في أرض فيها العلم والمعرفة وتكون مسائل التوحيد واﻹيمان ظاهرة بينة، والمقصود بالنائية أي حقيقة أو حكما، فبعض البوادي قد تكون قريبة من الحاضرة إﻻ أن طرقها صعبة واتصال الناس فيما بينهم نادر تحبسهم جبال أو أنهار أو وعورة طريق مما يجعلها في حكم النائية وقد تكون اﻷرض بعيدة جدا ويوجد بها من يُعلّم الناس أو تتيسر فيها وسائل التعليم أو طرائق اﻻتصال مما يجعلها قريبة حكما، فمسألة البداوة والحضر والنأي والقرب مسألة نسبية إضافية، ﻷن المراد هو شيوع الجهل وانعدام وسائل التعليم وانقطاع اﻻتصال، فهي مسألة تدور مع هذه العلل حيث دارت وإن كان الغالب أن البادية النائية هي علة ظاهرة في شيوع الجهل والخطأ والتقليد وما إلى ذلك، والشريعة ﻻ تكلف الناس إﻻ بما يطيقون، بل ورحمة ﷲ واسعة إذ يكلف العبد دون ما يطيق، فلا تحاسب هؤﻻء الذين يعيشون بعض اﻷحوال التي تمنعهم من معرفة العديد من التفاصيل في مسائل التوحيد واﻹيمان حتى تقام عليهم الحجة وتنكشف المحجة.

وإن أقواما اشترطوا شروطا في البادية النائية كأنها في كواكب أخر أو جزر يستحيل الوصول إليها، وناقضهم غيرهم حتى اعتبر المدن الكبيرة المليئة بالعلماء والمؤسسات والجامعات اليوم في حكم هذه البوادي النائية زاعمين أن الناس اليوم يعيشون أزمنة وأمكنة انطفأت فيها أنوار النبوة وهذا غلو شديد وجفاء شنيع.

قال تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} (البقرة:213)

فأهل الحق من أهل السنة والجماعة يجعلون هذه الموانع استثناء عن القاعدة، أما اﻷصل فهو أن كل مسلم يعلم المعلوم من الدين بالضرورة في العلميات والعمليات، فلا نخرج عن هذا اﻷصل إﻻ بقرينة معتبرة، كما أنهم يعتمدون في البداوة والنأي اﻷمر الحكمي وإﻻ أصبح كل من يعيش في بادية نائية معذورا ولو كان الأمر ظاهرا ظهورا بينا والعلم متيسرا وفي هذا من الفساد العريض ما يدل على بطﻼنه ويغني عن رده، لأنه هدم للرسالات ونقض للنبوات وكفر بالكتب المنزلة ونصر للشرك والكفر والإلحاد والزندقة ويكفي كل هذا دليلا على بطلانه الكبير وفساده العريض.

فكثير من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة ومسائل تتعلق بالتوحيد والإيمان نجد الناس في البادية النائية لا يعرفون شيئا من ذلك، وربما استهزؤوا بالأمور الظاهرة ظهورا بينا، فلا بد من مراعاة من يعيش في المناطق البعيدة والأماكن النائية كأصقاع سيبيريا ومجاهيل غابات إفريقيا وكهوف الجبال في آسيا والجزر النائية في أعماق البحار بل والعديد من البوادي في كثير من بلاد المسلمين، حيث ليس للناس أي علاقة بالقرآن الكريم ولا بسنة سيد المرسلين وانهم يعيشون في جهالة جهلاء وفتنة عمياء والله المستعان.

إن مراعاة هذا الأمر لا يعني أن نقبله وأن يصبح أمرا سائغا بل هو استثناء يجعلنا لا نحكم على الناس بالكفر ولو صدر منهم ما هو كفر بواح وشرك صراح حتى نُعلمهم ونُبين لهم ونقرب إليهم أمر التوحيد والإيمان، فنجمع بين العدل الذي هو الحكم بحق والرحمة التي هي تعليم الناس برفق والحكمة وهي وضع الشيء موضعه، فلو حكمنا عليهم ربما ازدادوا نفورا وكفرا وإصرارا وإستكبارا، فكانت الحكمة تقتضي الرحمة بهم، والعدل هو الميزان الذي توزن به الأشياء، فهذا معلوم من الدين بالضرورة فانكاره كفر بواح، وهذا رجل مسلم يعيش في بادية نائية لا علم عنده ولا دراية، فيقبل العدل الرحمة فلا نحكم عليهم بالكفر بل يجب أن يحرص عليه المسلم في هذه الحالة على تعليم الناس وتفهيمهم ورحمتهم والصبر على جفاءهم صبرا واسعا وتقريب الأمور إليهم.

أما المسألة الثانية وهي حديث العهد بكفر فهذه من الموانع في التكفير فقد يسلم الرجل وبعد أيام يزعم أن اﻹنجيل خير من القرآن أو أن أنبياء بني إسرائيل هم أعظم اﻷنبياء ويشيرون بذلك إلى رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم وقد يمجد المرء الصليب أو غير ذلك من الكفريات القطعية لكن لكونه حديث عهد بكفر ولم ينشأ في بلاد اﻹسلام ولم يعلم ما تعوده المسلمون من تعظيم المساجد والحرمات والشعائر والمناسك إلى حين أن يتعلم يجب أن يُفهّم تفهيما وأن نصبر على بطلانه صبرا كبيرا، حتى يفقه الأمور الشرعية وخاصة الحد الأدنى الذي هو واجب عيني على كل مكلف، فهو معذور ﻷنه في حكم من هو في بادية نائية فكيف إذا كان هذا المرء في أزمنة وأمكنة انطفأت فيها أنوار النبوة، وهذا من رحمة ﷲ الواسعة وفضله الكبير في أن العبد يؤاخذ على قدر علمه وفهمه ودرايته وظروف نشأته وحداثة عهده رحمة من ﷲ بخلقه وليس في هذا أي تفريط في تعظيم الشريعة ﻷن هذا المرء يجب أن يُعلّم وأن يُبيّن له الدين بيانا حقيقيا بما يفهم ذلك أمثاله، وإذا أقيمت عليه الحجة بما تقام على أمثاله وأضرابه وأشباهه فحينئذ يؤاخذ على قدر جرمه ويحاسب عندئذ إذا أصر وعاند وأبى واعترض وقد جعل ﷲ لكل شيء قدرا.

أما المسألة الثالثة وهي اﻷزمنة واﻷمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة فالبلاد التي يعوم فيها الجهل ويفشوا فيها الهرج ويُؤمّن فيها الخائن ويُخوّن اﻷمين وتنقلب فيها الموازين فلا شك أن عموم الناس يغدو عندهم الأمر مشتبها إلا من رحم ربك، فكان من البديهي أن تكون مسألة اﻹيمان والتوحيد والوﻻء والبراء والكفر واﻹيمان مقلوبة حتى عند بعض الخاصة فكيف بعوام الناس والدهماء والرعاع فقد يقولون من اﻷقوال الكفرية المقطوع بكونها كفرا وهم ﻻ يبالون فيعذرهم الشرع ابتداء فلا يحكم عليهم بكفر وﻻ يقام عليهم حد حتى تقام عليهم الحجة الرسالية بما يفهمها أمثالهم وأشباههم.

وكثير من الناس اليوم خاصة من يعيشون في بلاد الكفر وتعلموا رطانتهم أو من يعيشون في بلاد الإسلام في أحياء غربية لا يعلمون صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا حجا، فهؤلاء جميعا معذورون ابتداء فلا يتسرع الناس في تكفيرهم ولا لعنتهم ولا بغضهم ولا البراءة منهم، وهذه من رحمة الشريعة الواسعة وفضل الله الكبير.

والمقصود بذكر هذه الموانع أن نعذر أصحاب هذه الحالات الإستثنائية خلافا للخوارج والمعتزلة الذين لا يعذرون أحدا بحال.

ولا يعني أن نعتبر هذا الأمر من المُسَلّمات في واقع المسلمين وأن الناس جميعا معذورون وأن نتوسع توسعا فاحشا يعود على الأصل الذي هو التوحيد والإيمان بالإبطال خلافا للمرجئة والجهمية.

فهذه الموانع في باب الشرك اﻷكبر والكفر اﻷعظم يذكرها علماء السنة ﻷنها من الرحمة التي أنزل ﷲ بها شرعه، كما أنه إذا أقيمت الحجة على الخلق يعاملون بالمؤاخذة والمحاسبة، وهذا من العدل الذي قامت عليه السماوات واﻷرض، وإن انتهاج أساليب إقامة الحجة واﻻستتابة وفهم أحوال الناس وإدراك الواقع للأزمنة واﻷمكنة، كل هذا من الحكمة البالغة التي هي روح الشريعة.

فهذه المسألة هي من الاستثناءات التي لا تناقض الأصول وبالتالي لا يجوز أن يتمسك بها الناس لأن الذي يجب هو العمل على تعليم الناس ورفع هذه الحالات من الجهل، فلم يكن الجهل في يوم من الأيام أمرا يفتخر به الناس ويعتزون به إنما يساق في باب الاستثناءات ويجب العمل على إزالته والسعي الى محوه.

فموانع التكفير تهم المسائل الظاهرة البينة، فإذا وجدت عالما من علماء السنة يقف أمام مسائل في غاية الظهور والبيان تخالف مسائل التوحيد والإيمان كإنكار المعلوم من الدين بالضرورة الذي هو أمر نسبي إضافي فقد يكون عند بعض الأشخاص أو في الأزمنة والأمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة غير معلوم من الدين بالضرورة، فلا يُكفر العلماء المحققون من كان كذلك، فلا يجوز إنكار الناس على أهل العلم ولا يحل اتهامهم بالإرجاء والتجهم، لأن مسائل الإشتباه كثيرة، والقضايا متشعبة وفيها دقائق حيرت الجهابدة ومسائل تحتاج إلى أهل الرسوخ، فلما دخل هذا الباب الدقيق من هبّ ودبّ وقال الناس فيه على الله بغير علم، ولم يكن للكثيرين من الزائغين في الباب سلف وتجرأ الناس على الأمة فلم يراعوا إلا ولا ذمة، وخاض آخرون بحرا تتلاطم أمواجه بلا سفينة ولا مجادف فأنكروا الشمس في رابعة النهار أما الأولون فهم غلاة الخوارج والمعتزلة وأما الآخرون فجفاة المرجئة والجهمية.

وكان الوسط الذي هو العلم النافع والفقه الدقيق ولزوم السنة النبوية واتباع سلف الأمة من الصحابة والتابعين مع الورع الشديد والتبين الدقيق والشهادة بالحق من أقوام التزموا العلم الصحيح والفقه الرباني الدقيق فلم يسلموا من الخوارج والمعتزلة الذين يسمونهم بالمرجئة والجهمية والحشوية والجمود والحرفية، كما أنهم لم ينجوا من المرجئة والجهمية فهم يسمونهم الخوارج وكلاب أهل النار والدواعش ورؤوس الضلال والمكفرة وما إلى ذلك من قواميس الجهل ومصطلحات الفتنة.

قال تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} (العنكبوت:25)

أما المسائل الخفية فيعذر فيها المرء بالجهل والخطأ والتقليد والتأويل وكلما كانت المسألة دقيقة أو الشبهة قوية كلما كان العذر قائما حتى تتبين الحجة وتزال الشبهة، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، بل من رحمة الله الواسعة أن التكليف الشرعي يكون دون ما يطيق العبد.

فكيف يطالب الأعجمي الذي لا يعرف لغة العرب أن يفهم الأمور الظاهرة فضلا عن الخفية دون من يترجم له ذلك.

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (إبراهيم:4)

فهذا الأعجمي يجب أن يترجم له مترجم يحسن تبليغ الرسالة حتى يفهم هذا الأعجمي بما يفهم به أمثاله سواء في الأمور الظاهرة أو الأمور الخفية، وتحتاج المسائل الخفية إلى مزيد بيان وحسن عرض.

لكن المسائل الظاهرة ﻻ يعذر فيها المسلم بجهل وﻻ خطإ وﻻ تأويل وﻻ تقليد اﻻ إذا كان قد نشأ في بادية نائية أو كان حديث عهد بكفر أو في اﻷزمنة واﻷمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة.

فالعلم الشرعي بأصول التوحيد وقواعد الإيمان يجعل المرء على بينة من أمره في مسمى الإيمان وفي مسمى الكفر.

لكن في الأمور المشتبهات فكلما ضاق الأمر اتسع فوجب الورع الشديد والتبين الدقيق فالأمر دين فيجب تعظيم شرع رب العالمين ومعرفة حرمة عيال الله وخلقه المستضعفين وعباده الحائرين حتى لا نكفر الناس بغير حق، فالمسلم معصوم الدم والعرض والمال فلا يخترق شيء من ذلك إلا بحق، والشريعة المنزلة لها حرمة أعظم فلا نستهين بالربوبية ولا بالنبوة ولا بالكتاب المنزل وأن نعطي لكل ذي حق حقه.

وقد وقع الناس في أمر عظيم في باب مسمى الإيمان ومسمى الكفر، فذهب أقوام إلى منع التكفير بالمرة وسموا الباب بفتنة التكفير، وقابلهم آخرون بأن كفروا الناس بغير حق اعتمادا على جهالات وأوهام وخيالات وسراب يحسبه الظمآن ماء.

قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور:39)

فالذين يقولون فتنة التكفير يجب أن يعلموا أن المرء إذا ارتد أو كفر ولم يُكفَّر فهي فتنة عدم التكفير، والأولى بدعة غليظة والثانية مصيبة كبيرة.

والصحيح أن يقال إن فتنة التكفير بغير حق باطلة لأنها مذهب الخوارج والمعتزلة وهم رؤوس البدع والضلال.

إن فتنة عدم التكفير بحق باطلة لأنها مذهب المرجئة والجهمية وهم أئمة الفتنة والفساد.

وبناء على ذلك كله يجب أن يكون التكفير بحق أي بالتزام أصول أهل السنة وقواعد أئمة الحديث حتى لا نقع في مذاهب أهل الأهواء وأصحاب البدع.

إن المصائب المترتبة على تكفير المسلمين بغير حق هي كالكوارث المتولدة على عدم تكفير المرتدين بحق سواء بسواء.

فالشريعة منزهة عن العبث ولا تجمع بين المتناقضات ولا تفرق بين المتماثلات وتعطي كل ذي حق حقه، فليس من شهر سيف التكفير على المسلمين بأقبح ممن يسمع الطعن في الشريعة وتمزيق المصحف وسب الله ورسوله ودخول المشايخ إلى الكنائس في الأعياد والشهادة بصحة الشرائع السابقة وعدم نسخها وأنها ليست باطلة وغير ذلك من الكفريات الصريحة والشركيات القبيحة بل منهم من يحضر المواسم والمشاهد والذبائح والنذور والإستغاثات بغير الله في ما لا يقدر عليه إلا الله وما إلى ذلك من الشرك الأكبر البواح الصراح وهو يردد ملعونا ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هو يحزنون، فكلاهما انحراف عن الصراط المستقيم انحرافا كبيرا، وخروج عن المنهج القويم خروجا قبيحا، وصد عن سبيل الله المبين صدودا شديدا، فيجب أن نتعامل مع عدم التكفير بغير حق كتعاملنا مع التكفير بغير حق فكلاهما فتنة عمياء وضلالة جهلاء.

قال تعالى: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (يونس:35)

فكل ما ذكره المرجئة والجهمية عن الخوارج والمعتزلة، فهو حق في العديد من صوره، كما أن كل ما أشاعه الخوارج والمعتزلة عن المرجئة والجهمية فهو حق في الكثير من مسائله مما يدل على فساد الفريقين وقبح الطريقتين وأنهم جميعا ليسوا على شيء حتى يفيئ الكل إلى شرع الله ويلتزموا كتاب الله ويتمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلكوا طريقة الصحابة والتابعين في فهم شريعة رب العالمين.

فالخوارج والمعتزلة لا يعذرون أحدا بحال، لا يعذرون النوع ولا المعين ولا يعتبرون من نشأ في بادية نائية او كان حديث عهد بكفر أو في الأزمنة والأمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة، كما أنهم في باب المعين لا يعذرون بالجهل ولا بالخطأ ولا بالتأويل ولا بالتقليد، وفي هذا من الغلو الفاحش والتنطع القبيح ما يترتب عليه من المفاسد العظيمة على الإسلام والمسلمين ما الله به عليم، ومن درس تاريخ الخوارج والمعتزلة وحروبهم وفتنهم ومشاكلهم وما جروه على المسلمين من ويلات في القديم والحديث بسبب فساد أصولهم وتناقض قواعدهم يعلم علم اليقين أنهم أئمة ضلال وقادة فتن وزعماء فساد.

قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} (القصص:41)

فهؤلاء فتنوا الأمة بالتكفير بغير حق، وقابلهم المرجئة والجهمية الذين يمتنعون عن تكفير النوع والمعين ولو بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع ويحكمون على المرتدين ردة غليظة بالإسلام ويأبون كلمة الحق ولو كانت كالشمس.

قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (القلم:35)

ويعانقون الكفار والمرتدين ويتغاضون عن أقوالهم الخبيثة ويسمعون سب الله ورسوله والطعن في دينه والهجوم على شريعته نهارا جهارا ولا يأبهون إلى شيء من ذلك بل قبحهم الله يستنكرون تكفير هؤلاء المرتدين بحق، ويضيفون عليهم لعائن الله أن أهل السنة والجماعة وأهل الحديث وأصحاب الأثر ومن يسلكون منهج السلف الصالح أنهم خوارج ودواعش ومعتزلة ومكفرة مع أن أهل الحق يكفرون بأدلة وبيان وحجة وبرهان يستنفدون كل الأسباب ويتورعون غاية التورع حتى إذا بدت صفحات الكفر الأكبر والشرك الأعظم بارزة واضحة مكشوفة يقيمون عليها كتاب الله رب العالمين.

فالمسائل الظاهرة البينة التي تناقض الإيمان من جميع الوجوه وتخالف المعلوم من الدين بالضرورة وتصادم الإجماع المتيقن في مسائل التوحيد والإيمان وتتنكر للقطعيات في دلالاتها في أحكام الشريعة الإسلامية والذين يؤمنون بوحدة الأديان والذين يسمون المسائل الكفرية القطعية التي لنا فيها من الله برهان ساطع وحجة بينة يقولون عنها إنها مذهب الخوارج والدواعش وغير ذلك من الأباطيل القطعية والأراجيف اليقينية …ألا لعنة الله على الظالمين.

قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة:14)

فالفتنة الكبرى هي سلوك طرائق أهل البدع والأهواء من الجفاة والغلاة الذين خالفوا الأصول فحرموا الوصول.

فالذين يطلقون عبارة فتنة التكفير من غير تقييد فقد قالوا باطلا والذين يكفرون بغير ميزان قد أتوا ضلالا.

والذين يكفرون المرتدين بحق وبينة وحجة وبرهان ويمتنعون عن تكفير المسلمين بغير حق مهما بلغ فسقهم وبدعتهم وإجرامهم، فلا شك أن هؤلاء هم الورثة الحقيقيون لأئمة السلف.

قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32)

الرابغ عشر: الموانع عند المعين

الكلام في الموانع عند المعين لا علاقة له بالمسائل الظاهرة البينة، فهذه المسائل الظاهرة البينة لا يعذر فيها أحد البتة إلا اذا كان قد نشأ في بادية نائية أو كان حديث عهد بكفر أو في الأزمنة والأمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة.

لكن اﻷمور الخفية التي تحتاج إلى نظر وتأمل فيكون العذر الشرعي عند المعين عند توفر شروطه وانتفاء موانعه، فمن باب أولى الأخفى التي لا بد فيها من غوص وتعمق فالعذر الشرعي آكد وأحرى عند تحقق الشروط والموانع سواء في باب الجهل والخطأ والتأويل والتقليد وهي موانع معتبرة في مسائل التكفير، فموضوع تكفير المسلمين لا يكون بجرة قلم نوعا أو عينا وإنما بتحقق شروط وانتفاء موانع سواء في النوع أو في المعين.

فالشريعة عدل كلها بميزانها الدقيق فهي تدقق في النوع وتعزله عن المعين، وحكمة كلها إذ تنزل الأحكام على الأعيان بفقه دقيق ونظر بعيد، ورحمة كلها لأنه لا أحد أحب إليه العذر من الله فهو يقبل عذر عباده وتوبة عباده واستغفار عباده واعتذار عباده إليه، كل ذلك بالشروط الشرعية والضوابط الربانية، وهو عدل كبير وحكمة عظيمة ورحمة واسعة.

والمسائل الخفية وفيها ما هو أخفى وأدق فهذا كله يحتاج إلى العلماء الربانيين والراسخين من الصديقين سواء لبيانه أو الحكم عليه والشبه كثيرة جدا وبعضها أشد من بعض وخاصة في اﻷزمنة واﻷمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة قد يغدو الحليم حيرانا وقد تشتبه المسائل الخفية على الخاصة قبل العامة وقد تعم الشبه الدقيقة مجالس الباحثين وملتقيات المتخصصين، فكان من الحكمة الشرعية والعدل الرباني والرحمة الشاملة أن تقام الحجة الشرعية على هؤلاء جميعا بما يدركها أمثال هؤﻻء فضلا عن غيرهم فيكون العذر ابتداء اذا لم يفرط المرء في شيء من ذلك، فلا يُحكم على المرء بالكفر حتى تتوفر الشروط وتنتفي الموانع، كما أنه يُفرق في المسائل الخفية بين القول والقائل والفعل والفاعل إلى حين قيام الحجة الشرعية، لكن المسائل الظاهرة ﻻ يفرق فيها بين النوع والمعين ولا سيما إذا كان ظهورها بَيّنا، وأما المسائل التي هي أخفى فالكلام فيها يحتاج إلى شروط أدق وانتفاء موانع أعمق.

وقد يُلبّس أهل الباطل على أهل الحق بإدراج مسائل خفية نعلم يقينا أنه يجب فيها إقامة الحجة ببيان أوضح وكلام أصرح لأنها دقيقة أو أدق فيدرجها المبتدعة في المسائل الظاهرة التي ﻻ يعذر فيها الجاهل وﻻ المخطئ وﻻ المقلد وﻻ المتأول، بل ويبالغ بعض أهل الجفاء فيذكرون ذلك في المسائل اﻷكثر ظهورا والتي تضاد اﻹيمان من جميع الوجوه، فيعذرون الساب لله ولرسوله والممزق المصحف والساجد للصنم مع أنها أمور يكفر فيها النوع والمعين إجماعا لأنها لا تنفك عن اعتقاد فبحصول النوع يلزم المعين بذلك، اﻻ من كان قد نشأ في بادية نائية أو كان حديث عهد بكفر أو كان في اﻷزمنة واﻷمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة حتى يبين لهم وجه الحق فهؤﻻء يكون الأمر عندهم خفيا والمعلوم من الدين بالضرورة ﻻ يكون عندهم معلوما وكونها قطعية فهي مسألة نسبية إضافية، ويعامل من كان في هذه اﻷزمنة واﻷمكنة في اﻷمور الظاهرة كأنها خفية فيفرق بين القول والقائل والفعل والفاعل.

ويعذر الجاهل والمخطئ والمقلد والمتأول ابتداء حتى تقام عليه الحجة التي يفهم بها أمثاله واضرابه، لكن لماذا يخلط أهل الباطل اﻷمر فيجعلون كل الناس معذورين حتى في المسائل الظاهرة البينة، وفي أمور الشرك اﻷكبر يخلطون بين التبرك الشركي والتبرك البدعي المحرم والتبرك المشروع الذي دلت عليه أدلة الكتاب والسنة ويفسدون العقول ويلوثون العقائد ويلبسون الحق بالباطل في باب التوسل فيذكرون المشروع المسنون لتبرير البدعي المحرم ثم يزيدون خطوة للتأصيل للتوسل الشركي اﻷكبر المخرج من الملة وقد جعل ﷲ لكل شيء قدرا، فخلط هؤلاء الحق بالباطل والتوحيد بالشرك والسنة بالبدعة في مسائل اﻻعتقاد بل غدا الوﻻء براء والبراء وﻻء وينطلقون من الزيارة الشرعية لمقابر المسلمين وهي سنة بشروطها الشرعية ﻹباحة الزيارة البدعية للمواسم والأضرحة والمزارت والمشاهد بل يتحولون إلى تعظيمها التعظيم الذي لا يليق إلا بالله وهو من خصائص ربوبيته ويقولون فيها بجواز العبادات التي ﻻ تليق اﻻ بالله فيصرفونها للمقبور والأضرحة واﻷشجار واﻷحجار مستدلين بأصل الزيارة الشرعية المسنونة، وهذا كله من اللبس القبيح والخلط العجيب.

والميزان الحق هو التفريق بين اﻷمور الظاهرة واﻷمور الخفية وبين النوع والمعين وبين بلوغ الحجة وفهم الحجة وبين من يعذر بسبب اﻷزمنة واﻷمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة وبين من ﻻ يعذر بذلك، كما أن الذي يسعى إلى معرفة الحق ليس كمن هو معرض ﻻ يبالي وﻻ يطلق هذا الحكم إطﻼقا بل يعذر على قدر ما انطفأ من أنوار النبوة في تلك اﻷزمنة واﻷمكنة.

فقد تساهل أهل الجفاء تساهلا كبيرا عاد على اﻷصل باﻹبطال وهم يعذرون كل شخص بالجهل والخطأ والتأويل والتقليد ويصرون في فهم الحجة على أن تأتي الناس مبسطة من غير سعي منهم ولهم أن يَدَّعوا عدم اﻹقتناع وهذا جفاء شنيع وفساد عريض قد جر على الأمة من التهاون في الدين والتساهل في الحلال والحرام والتغاضي عن الشرك الأكبر والكفر الأعظم ما الله به عليم وقد يذكرون لتبرير هذه الأقوال الفاسدة الكلام عن الرحمة الواسعة وأن فضل الله كبير ومهما وقع العبد في جرم فعفو الله أوسع، ولا يلتفتون إلى باب العدل الإلاهي ولا إلى الحكمة الربانية.

وقابلهم أهل الغلوالفظيع والتطرف القبيح فلم يعذروا أحدا ﻻ بجهل وﻻ بخطأ وﻻ بتأويل ﻻ في المسائل الظاهرة وﻻ في المسائل الخفية وأن من بلغته الحجة فقد أقيمت عليه ولو كانت مسألة خفية جدا وكان الرجل أميا ولم يجد من يعلمه بل ولو نشأ في بادية نائية، وهذا الضلال المبين والإبتداع الشنيع يعود على اﻷصل باﻹبطال، مركزين على باب العدل الإلاهي دونما ربطه بالحكمة العظيمة والرحمة الواسعة، فكفروا جمعا من المسلمين خواصهم وعوامهم، كبارهم وصغارهم ولم يلتفتوا إلى الأزمنة والأمكنة التي انطفأت فيها أنوار النبوة وأشاعوا فتنة عمياء وتباغض الناس بغضا شديدا ولعن بعضهم بعضا بغير حق وقاتل بعضهم بعضا بغيا وعدوانا مما جرأ أهل الكفر على الأمة وأغرق المسلمين في بحار الذل والمهانة.

قال تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة:213)

فجمع أهل الحق بين العدل الإلاهي والرحمة الواسعة والحكمة العظيمة جمعا قرآنيا وفهما نبويا وسلوكا طريقة الصحابة والتابعين ومن سلك مسلكهم من أهل العلم وأئمة الدين.

فنظروا إلى النصوص الشرعية ببصيرة العدل فوضعوا الشروط والموانع، وأبصروا بعين الحكمة ففرقوا بين النوع والمعين، وأحاطوا ذلك كله بالرحمة فعذروا الخلق رحمة من الله، فجمعوا الخير من كل جوانبه فحفظهم الله من غلو الغلاة ومن جفاء الجفاة. فمنهاجهم قائم على العدل الكامل فحكموا على النوع والمعين بما يستحقون، ووضعوا الأمور في نصابها إلا من اختار الغواية وسلك مسالك الشيطان وأصر وعاند وكابر فهلك.

قال تعالى: {قَالَ هَٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ،، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ،، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر:42)

ولقد كلف الله العباد دون ما يطيقون وهذه عين الرحمة ولب الحكمة، فكانت شريعة الإسلام حنيفية سمحة لا يلوي عنقها غلو الغلاة ولا يميع جمالها جفاء الجفاة.

قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ } (البقرة:286)

ولو عامل الرب خلقه بالشدة ولو بحق لشق عليهم الأمر ولكنه عليم بعباده رحيم بخلقه يسير في محاسبته كريم في جزاءه، فكيف يريد أقوام الشدة وقد شدد أقوام فشدد الله عليهم، أم كيف يريد آخرون أو يجعلوا الشريعة متسيبة مائعة لا خطام لها ولا زمام، فدين الله أعظم من ذلك كله سواء جفاء الجفاة أو غلو الغلاة.

قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (فاطر:45)

الخامس عشر: إقامة الحجة

لقد أمر الله بإقامة الحجة على الخلق، فمن أقيمت عليه الحجة الرسالية ولم يؤمن فهو كافر كفرا بينا، أما من لم تقم عليه الحجة الرسالية فهو ممن شملهم العذر حتى يقضي الله فيهم بأمره يوم يبعث الناس حفاة عراة غرلا.

قال تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت:46)

فإقامة الحجة شرط من شروط التكفير، كما أن عدم إقامة الحجة فهو مانع من موانع التكفير.

قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء:15)

قال تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء:165)

وقد اتفق الناس على أن إقامة الحجة على الخلق شرط من شروط التكفير، لكنهم اختلفوا في معنى إقامة الحجة كاختلافهم في كل الشروط والموانع.

فهل إقامة الحجة تكون ببلوغ الحجة؟

أم أن إقامة الحجة تكون بفهم الحجة؟

أما بلوغ الحجة وهي أن يبلغ القرآن أو السنة الصحيحة أو الإسلام الحق إلى الناس، فهل بمجرد البلوغ أقيمت الحجة على عباد الله أم لا بد من فهم الحجة.

وفهم الحجة وهي أن الناس معذورون حتى يفهموا مراد الله ومراد نبيه فهما دقيقا آنئذ تكون قد أقيمت عليهم الحجة.

فأما الخوارج والمعتزلة والغلاة وأهل التنطع فهم يرون أن بلوغ الحجة كاف في إقامة الحجة على الخلق.

وقابلهم الجفاة من المرجئة والمتكلمين بأن قالوا إن فهم الحجة شرط في إقامة الحجة الرسالية على الخلق أجمعين.

لكن أهل الحق من أهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث والأثر ومن سلك سبيل السلف الصالح من الصحابة والتابعين يقولون إن الأمور الظاهرة البينة يكفي فيها بلوغ الحجة لقيام الحجة على الخلق, وأما الأمور الخفية فتحتاج إلى فهم الحجة الشرعية, وكلما كانت المسألة أخفى كان بيان الحجة وتوضيحها وفهمها ضروريا لإقامة الحجة على الخلق.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لما نادى في أهل مكة قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، فهذه المسألة ظاهرة في غاية الظهور، والنبي عليه الصلاة والسلام معروف بأنه الصادق الأمين، وكلمة الإخلاص والتوحيد لا يماري فيها أحد من العرب إنما وقع تشويش في معانيها جعل العرب يقعون في الشرك الأكبر مع إدعاءهم أن الله أعلى من كل شريك.

فلا شك أنه قد أقيمت الحجة الرسالية على أم القرى ومن حولها بمجرد البلوغ أي بلوغ الحجة الشرعية.

كما أن المسائل الخفية في باب التوحيد والإيمان التي جاء بها النبي عليه الصلاة و السلام كانت تحتاج إلى التوضيح والتفسير والبيان وفهم الحجة.

وهل القرآن الكريم بمجرد بلوغه قد أقيمت الحجة على الناس أم لا بد من فهمه لإقامة الحجة؟

أما القرآن الكريم فهو حجة ظاهرة بينة كالشمس في رابعة النهار، وقد عجز العرب وهم فطاحلة اللغة وأساطين البيان على الإتيان بمثله، لكنه ينقسم إلى أمور ظاهرة بينة لا يستطيع المرء لها دفعا فهذه حجة بمجرد البلوغ، وهناك أمور خفية تحتاج إلى بيان وشرح وتفسير وفهم للحجة الرسالية.

وقد أطلق علماء الدراسات القرآنية على النوع الأول المحكمات كما أطلقوا على النوع الثاني المتشابهات.
والقرآن كله محكم لكن التشابه يكون في ذهن المجتهد.

كما أن المتشابهات يجب أن ترد إلى المحكمات فيزول الإشتباه عندئذ.

أما أهل الأهواء والبدع فيردون المحكمات إلى المتشابهات، والقطعيات إلى الظنيات، والمسائل الظاهرة إلى المسائل الخفية فتنقلب عندهم النتائج لإضطراب المقدمات.

وإن مسألة توحيد رب العالمين هي من المحكمات القطعية والمسائل الظاهرة البينة بل هي من البدهيات التي لا تحتاج إلى دليل.

قال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} (إبراهيم:10)

فاستدل الرسل والأنبياء على أقوامهم في أن مسـألة توحيد الربوبية من البدهيات التي تعرف بالفطرة السليمة والعقل الرشيد وهاهم الأنبياء والرسل والكتب المنزلة والمعجزات الباهرة كلها تؤكد هذه الحقيقة القطعية التي هي أم البراهين.

فلا يصح في الأذهان شيء ****** إذا احتاج النهار إلى دليل

لكن الإشتباه والشك والحيرة والإضطراب إنما هي في الأذهان السقيمة والفطر الملوثة والعقول العفنة، لا في الأعيان والخارج والواقع.

فأهل العلم في الكتاب والسنة وأصحاب الفقه لمراد الله ومراد رسوله وأئمة الدين الذين هم حراس الحدود وقد جعلهم الله وقفا بحق لخدمة دينه ونصرة شريعته.

فهؤلاء يفهمون مسمى الإيمان ومسمى الكفر بعقل رشيد ونظر ثاقب وفهم سليم وإدراك دقيق.

ففي مسائل إقامة الحجة هل هي بالبلوغ أم بالفهم وفي النوع والمعين والشروط والموانع وما إلى ذلك من دقائق المسائل في باب مسمى الإيمان ومسمى الكفر فهم يسلكون مسلكا وسطا ويلتزمون فهم السلف الصالح ولا يرتبطون بالقواعد المبتدعة والأصول المخترعة، بل قواعدهم مستقاة من الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح.

فمثلا من قواعدهم النورانية وأصولهم الربانية في فهم مسائل الإيمان والكفر قولهم “لأن أخطئ في العفو خير من أن أخطئ في العقوبة” وهذه قاعدة قضائية شرعية يستعملها القضاة والفقهاء عند الأمور التي يقع فيها اشتباه والمسائل التي يحدث فيها اضطراب.

فالكفر اليقيني أو ما دلت عليه الأدلة وصاحبته القرائن معروف لا يحتاج إلى جدال، لكن عندما يقع الإشتباه أو يحدث التردد فهنا يختار العلماء الأورع ويلتزمون العفو، بل يقتفون أثر الإمام أحمد ابن حنبل عندما يحصل له اشتباه في شخص حول بدعته أو فسقه أو فجوره فيقول “أَجبُنُ” فالجبن هنا هو الورع، وهو في مكانه يكون محمودا، أما استعمال الورع في الكفر اليقيني فيكون ورعا باردا لا يساوي في سوق العلم الشرعي جناح بعوضة.

ومن القواعد الذهبية عند أهل الحق “إدرؤوا الحدود بالشبهات” وهو حديث يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

فالرجل قد يتهم بما يقام عليه به الحد الشرعي كالردة مثلا في مسائل الكفر والإيمان لكن إذا رأى قضاة العدل شبهة تمنع من إقامة الحد عليه تركوا الحد، لأن درأ الحدود بالشبهات يدخل في الرحمة الواسعة والحكمة العظيمة وهو لا ينافي العدل الرباني بل هو عين العدل.

ومن قواعدهم العظيمة “حق الله مبني على المسامحة وحق الخلق مبني على المشاححة”.

فما كان بين الناس من حقوق فمبناها على المشاححة فلو أن صبيا أو مجنونا أتلف لمخلوق شيئا وجب عليه أداءه له، فيؤديه وليه أو يؤدى من ماله إن كان له مال حتى لا تضيع حقوق الناس.

لكن هذا الصبي أو المجنون لو ضيع حقا لله من صلاة أو زكاة أو نطق بكفر أو ردة فلا شيء عليه البتة.

وإذا اجتمع في الأمر حق الله وحق الخلق، فمعفو عنه حق الله فلا إثم عليه لكنه مطالب بأداء حق الناس حتى لا تضيع الحقوق، وهنا يتجلى العدل والحكمة والرحمة في أعلى صورها.

فعندما نتكلم في النوع نجد اصطداما شديدا مع المرجئة والأشاعرة وعندما نتكلم في المعين نجد إنكارا قويا من الخوارج والمعتزلة.

والسبب في ذلك كله هو أن الإيمان لا يتشعب ولا يتجزأ ولا يتبعض عند الفريقين والنوع كالمعين عندهم فإما كفر أكبر مخرج من الملة نوعا وعينا كما عند الغلاة وإما إيمان كإيمان جبرائيل وميكائيل كما عند الجفاة نوعا وعينا.

أما أهل التوسط في الإعتقاد فهم يضعون النوع موضعه والمعين موضعه ولهم شروط وموانع في ذلك كله ويفرقون بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية، ويميزون بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، وما إلى ذلك من القواعد السليمة والأصول العظيمة التي سلكها أتباع الصحابة والتابعين والأئمة الهداة المهتدين والفقهاء المجتهدين الذين تمسكوا بفهم سلف الأمة في مسائل الإعتقاد بما في ذلك مسمى الإيمان ومسمى الكفر.

قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:100)

“يتبع” .. إن شاء الله.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد الأمين وآله الطيبين وصحبه الغر الميامين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *