بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد الأمين وآله الطيبين وصحبه الغر الميامين.
موضوع اليوم: العلماء الربانيون والسنة النبوية.
بعد الكلام عن توحيد رب العالمين ونبذ الشرك واجتناب الكفر والبراءة من المشركين والكفار براءة كاملة تامة، وأنه لا يمكن أن يقع أهل العلم في شيء من ذلك البتة إلا على سبيل التأويل بعد استفراغ الوسع وأن تكون المسألة محتملة وأن لا يُعرف العالم ببدعة ولا انحراف عن الحق وأهله.
وعليه فيكون كلامنا اليوم بتوفيق الله ومعونته عن التزام العلماء الربانيين للسنة النبوية الغراء وخدمتها والذب عنها ونشرها ونصرتها وتفنيد أقوال المعاندين للسنة من أعداء الإسلام كالمستشرقين والعلمانيين وغيرهم، وإبطال مذاهب المخالفين من أهل الإسلام الذين يردون صحيح السنة بالأوهام والأباطيل.
ولقد كان الناس زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم يتحاكمون إلى كتاب رب العالمين وإلى سنة سيد المرسلين، وقد برز عند الصحابة والتابعين فَهْمٌ عظيم للكتاب والسنة لأنهم عايشوا الوحي وصاحبوا النبي المصطفى وكانت حياتهم اليومية في المدرسة المحمدية كما أن القضاء الشرعي كان يهيمن على نشاطاتهم الدائمة، فشاع وعي عام وفهم شامل وفقه عميق للسلف الصالح، ولم يُعرف عن الصحابة بدعة أو هوى، إنما عرفوا بالاتباع والاقتداء وإحياء السنة والاجتهاد في الطاعة وسيأتي الحديث عن السلف الصالح بحول الله وقوته.
ثم تفرق الصحابة في الأمصار فنشأت مدارس متعددة فهذه مدرسة الكوفة وهذه مدرسة البصرة بالعراق وهذه مدرسة الشام ثم مدرسة الحجاز أي مدرسة المدينة النبوية ومدرسة مكة المكرمة وغيرهم من المدارس المتعددة في الأقطار والمبثوثة في الأمصار، وهذه المدارس العظيمة اختلفت فيها الآراء والاجتهادات من قِبل الصحابة الكرام ثم توسعت بعد ذلك في زمن التابعين ثم كان الأمر أوسع في زمن الأئمة الهداة المهتدين في مسائل الفقه والاستنباط، لكنها ظلت واحدة في مسائل العقائد ومباحث الإيمان، فعقيدة السلف واحدة عند جميع الصحابة وكل التابعين ومن سلك مسلكهم من الأئمة المجتهدين.
أما فيما يتعلق بالسنة النبوية فقد حفظ الصحابة الكرام القرآن الكريم وجمعوه وصانوه وخدموه، وكذلك نقلوا السنة النبوية بأمان كامل وصيانة تامة، فالصحابة جميعا عدول ثقات في نقلهم للسنة النبوية ولم يعرف فيهم كذاب ولا وضاع ولا ضعيف ولا دجال ولا مفتر، والعدالة أي في الرواية وهي النقل الصادق عن النبي عليه الصلاة والسلام وهي غير العصمة فموضوع العصمة باب وباب العدالة في الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام باب آخر، فالقول بأن عدالة الصحابة أمر تُجُووِز قول بعيد عن التحري والدقة، لأن هؤلاء يخلطون بين العدالة والعصمة والصحابة عدول ثقات كما أنهم أعلى درجات الأمة في الاستقامة وحسن الخلق والتزام الشرع والوقوف عند حدود الله، لم يلحقهم من بعدهم، بل ولا كادوا.
وقد أجمع الأئمة على عدالة الصحابة في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل لم ينقل عن أحدهم غفلة ولا نسيان ولا ما إلى ذلك مما تضعف به الروايات النبوية.
فنقل الصحابة العلم والفهم والفقه والعمل إلى التابعين بإحسان، فكان ابن مسعود مثلا في أرض الكوفة يعلم أهل الكوفة القرآن ويعلمهم السنة رواية ودراية ورعاية وفقها وسلوكا، وكذلك كان أبو الدرداء ومعاذ بن جبل بالشام وأنس بن مالك بالبصرة وابن عباس بمكة والخلفاء وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وكذلك الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم أجمعين بالمدينة وما إلى ذلك، فنُقلت السنة نقلا دقيقا.
ولقد كانت تكتب السنة أيام الصحابة والتابعين وكان لكل راو من الرواة الكبار أصوله المحفوظة وكتبه المعروفة.
لكن الكتابة الرسمية التي سهرت عليها الخلافة كانت زمن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فكانت الكتابة يومئذ ظاهرة عامة اشتركت فيها الأمة جمعاء تحت رعاية الخلافة، أما الكتابة العفوية والفردية فكانت من الزمن الأول أي أيام الصحابة والتابعين.
فالسنة النبوية معظمة عند الأمة لأنها كلام النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ثم إنها مصدر رئيسي من مصادر الشريعة، فكان اهتمام الأمة بالسنة النبوية اهتماما كبيرا.
وقد تعرضت السنة النبوية لهجمة شديدة في الزمن الأول وهي هجمة الوضع والكذب والافتراء على النبي عليه الصلاة والسلام، فقام الجهابذة من هذه الأمة والعظماء من العلماء والكبار من الحفاظ بتصفية السنة من الاكدار وتنقيتها من الوضع وغربلتها من الدخيل وقد جعل العلماء للحديث والسنة علوما مستقلة ومصطلحات دقيقة وفنا منفردا.
كما تعرضت السنة النبوية في كل زمن إلى طعن الطاعنين وانتقاد المفسدين من المعتزلة وأهل الأهواء من الفرق الكلامية وغلاة أهل الرأي والمتنطعين من أدعياء العلم، فكان رد العلماء مُفحما وحجتهم داحضة، فعادت جيوش الضلال خائبة خاسرة.
ثم هاج المستشرقون خلال القرون الأخيرة بحماية الاستعمار البغيض والاحتلال الساقط بحملات مسعورة على السنة النبوية تهاوت بسبب بطلانها لوحدها كما قام العديد من العلماء الربانيين بواجبهم العظيم في نصرة الحق المبين.
وفي العصر الحديث هناك حملة شعواء من قبل الجهال الذين لا علم لهم ولا دراية ولا معرفة بالهجوم على السنة النبوية، فلئن كان الضلال السابقون أهل باطل إلا أنه كانت لهم علوم عديدة وبحوث كثيرة، أما هؤلاء اليوم فجهل شنيع وادعاء عريض وفضيحة مشؤومة ونتانة قبيحة، فهم يردون السنن الصحيحة بل المتواترة التي لا غبار عليها والتي كان أئمة الكلام ودهاقنة الاعتزال يضطرون إلى تأويلها تأويلا بعيدا ولم يجرؤ أحد منهم على تكذيبها وهؤلاء الجهال يكذبون ذلك بدم بارد لأنه أثلجه الجهل وأعماه العَيُّ، بل قد انفرد هؤلاء الجهال برد السنن العملية التي لا علاقة لها بالعقائد وهو انفراد غريب وقول بعيد خالفوا فيه أهل الحق وأهل الباطل، فقد اجمع علماء المسلمين سنِّيِّهم وبدعيِّهم، سلفيِّهم وخلفيِّهم على أن السنة الصحيحة توجب العمل واختلفوا هل توجب العلم وأهل الحق من أصحاب الحديث والأثر يوجبون العلم والعمل إذا صح الحديث وعند بعضهم إذا احتفت به القرائن، أما العمليات فقد أجمعت الأمة على جواز ذلك إلا هذه الشرذمة القبيحة والفئة الضالة ممن لا دين عندهم ولا عقل.
ومن المعلوم عند الباحثين أن كل العلوم الشرعية كان لها ما يضاهيها من علوم الأوائل فكان في التوحيد إسرائيليات اليهود والنصارى أو الفلسفات اليونانية، وكان في أصول الفقه المنطق الأرسطي أي العلوم الباطلة التي تزاحم العلوم الشرعية والتي تأثر بها أئمة البدع وأساطين الأهواء، أما العلوم الشرعية في ذاتها من علم التوحيد أو أصول الفقه أو قواعد العربية أو علوم التاريخ أو ما إلى ذلك فهي إسلامية بحتة، لكن علم الحديث علم خص الله به هذه الأمة فلا تعرفه أمة من الأمم، وهو فن فريد في بابه دقيق في منهجه رائع في مباحثه متكامل في أصوله، فلا توجد أمة حفظت شريعتها وصانت كتبها ورعت أخبار أنبياءها كما حصل لهذه الأمة وحدها دون سائر الأمم بسبب علوم الحديث وفنونه ومناهجه وأصوله وخيراته وبركاته.
وعُرف الكذابون والوضاعون ودعاة الفتن وأهل الأهواء وغيرهم، وبيَّن الأئمة الفحول الأحاديث المكذوبة والموضوعة، بل من كان ذا غفلة أو نسيان أو كثر غلطه أو فحُش خطؤه أو احترقت كتبه أو كان يُلَقّن، بل ولو كانت أخطاؤه يسيرة، كل ذلك بيَّنه العلماء بيانا دقيقا، علم ذلك من علمه وجهل ذلك من جهله ولله في خلقه شؤون.
فالسنة النبوية من حيث الرواية أتقنها أهل العلم إتقانا شديدا، والكلام عن الرجال والجرح والتعديل قد فاقوا فيه كل الأمم حتى شهد بذلك القريب والبعيد والصديق والعدو والموافق والمخالف إلا من طمس الله بصيرته بالجهل والعمى.
وقد كان الى جانب اشتراط العدالة في الراوي اشتراط الضبط في الراوي ضبط الصدر وضبط الكتاب، وكان الأئمة يمتحنون العلماء لمعرفة مدى ضبطهم وكانوا يبحثون معهم أصولهم المكتوبة لإدراك ما هم عليه من غزارة العلم والتعمق في الحديث.
وقد كان القرن الأول قرن الاهتمام بالسنة، وكان صغار الصحابة لا زالوا أحياء، وكان القرن الثاني قرن جمع السنة، فجمعت جميع المرويات صحيحها وسقيمها، جيدها ورديئها، وكان إمام الأئمة مالك بن أنس رائد هذا القرن وزعيم هذه الكوكبة المباركة التي ضمت عظماء المحدثين، وكان الموطأ من أعظم الكتب وأجلها في هذا القرن، ثم كان القرن الثالث الذي مُيِّزت فيه الأحاديث الصحيحة عن غيرها وضبطت فيه المؤلفات الحديثية، فكان العصر الذهبي للسنة النبوية وكان الإمام أبو عبد الله البخاري هو فارس هذا القرن وكبشه النطاح، وعاش معه وقبله الأئمة النحارير والعلماء الجهابذة، وكان للسنة النبوية الحراس المشاهير كأبي حاتم الرازي وابن خالته أبي زرعة الرازي وغيرهم من أئمة الجرح والتعديل.
إذا فالعلماء الربانيون أمامهم السنة النبوية كالشمس في رابعة النهار، قد يفوت الرجل مهما بلغت إمامته المسألة والمسألتين، وقد يخطئ العالم الكبير في أمر اجتهادي أو في أمرين، وهذا لا يزيد العالم المجتهد إلا عُلُوّا ورفعة درجة على أن لا يتعصب لقوله بعد معرفة الدليل وأن لا يتعصب الناس له بعد ظهور الحجة عليه، والأمة بمجموعها معصومة عن الخطأ فإذا فات الحق زيدا أدركه عمر.
وفي نهاية القرن الثالث انتهى أمر جمع السنة في المصنفات الحديثية وفي المصادر العلمية، فأيما حديث ظهر بعد هذه المدة فليس بحديث وإن زيّن الكذابون سنده وزوقوا روايته، فالعمل كله عند العلماء لا يخرج عن ما ذكر في القرون الثلاثة الأولى، وكذلك الكلام عن الرجال كان عند السلف ممن يعرفونهم أو يعرفون من يعرفونهم، أما بعد القرون الثلاثة الأولى فيكون الاختيار من كلام السلف أو الترجيح بين أقوالهم.
إذا السنة موجودة محفوظة مصانة لأن الله تعهد بحفظ الذكر، والسنة بيان للقرآن، فلا يحفظ المُبيَّن الذي هو القرآن إلا بحفظ المُبَيِّن الذي هو سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فهي شرع وهي دِين، فهي تخصص عام القرآن وتقيّد مطلقه وتُبيِّن مشكله وتفصل مجمله، بل والسنة النبوية تستقل بأحكام شرعية تتعلق بالحلال والحرام بما ليس مذكورا في كتاب رب العالمين، وأعظم من ذلك أنها تذكر أصولا مستقلة تتعلق بمسائل الاعتقاد وقضايا التوحيد وأمور الإيمان.
فالعلماء الربانيون يهتمون غاية الاهتمام بالسنة النبوية فيخدمون السنة خدمة كاملة ويذبون عن الحديث ذبا صادقا وينشرون علم النبي محمد صلى الله عليه وسلم نشرا حقيقيا ويعملون بمقتضى ما ورثوه عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بصدق ووفاء ومحبة واعتزاز.
فلا يدفعون الأحاديث الصحيحة الثابتة بالأهواء والدعاوى ولا يتنكبون السنة النبوية بالآراء الشاذة والأقوال الغريبة ولا يقدمون أقوال الرجال مهما علا قدرهم وكبُر شأنهم على الأنوار النبوية والأسرار المحمدية.
هذا فيما يتعلق بالتعامل مع السنة النبوية الشريفة من حيث الرواية والسند والثبوت وصحة النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أما من حيث فقه السنة ودراية الأحاديث والعمل بمقتضى ذلك والأسس الفقهية والقواعد الأصولية التي بناها العلماء على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه الصحيحة فهذا ما نرجئه إلى البحث المقبل بتوفيق الله ومعونته وتيسيره.
والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد الأمين وآله الطيبين وصحبه الغر الميامين.