الرئيسية / مقالات / سلسلة السلفية / السلفية 12 : السلفية والمذهبية – الجزء 2

السلفية 12 : السلفية والمذهبية – الجزء 2

ثالثا : الفقه في زمن الرواية

لقد اتسعت الفتوحات الإسلامية، وانتمى إلى أرض الإسلام أقوام، وأصبحت المدائن عظيمة والأمصار كبيرة، وامتزجت الأمة بثقافات واحتكت بحضارات، فأرسل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الكثير من فقهاء الصحابة إلى المدائن والأمصار، كما أرسل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه المصاحف إلى الأمصار العظيمة في ذلك الزمان، فنشأ فيها القراء الكبار والروايات القرآنية المتواترة والطرق الشهيرة، ونشأت المدارس الأساسية كمدرسة المدينة النبوية ومدرسة مكة ومدرسة اليمن ومدرسة الكوفة والبصرة ومدرسة الشام سواء في القراآت القرآنية كنافع في المدينة (تـ169هـ) وابن كثير المكي (تـ120هـ) وابن عامر الشامي (تـ118هـ) وأبو عمرو ابن العلاء البصري (تـ154هـ) وعاصم بن أبي النجود (تـ127هـ) والكسائي (تـ189هـ) وحمزة بن حبيب الزيات (تـ156هـ) بالكوفة، أو مدارس التفسير كمدرسة ابن عباس بمكة وعلي وابن مسعود بالكوفة والخلفاء الراشدين بالمدينة ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء بالشام، وعمت خدمة الحديث النبوي الشريف كل هذه المدارس وفي غيرها من مدائن الإسلام إلى ما وراء النهر وخراسان وبلاد العجم، وقد علم الصحابة التابعين فقه الشريعة تعليما بينا وفسروا القرآن للناس تفسيرا واضحا ونشروا السنة النبوية نشرا صحيحا وفَقَّهوا الأمة فقها دقيقا، فالصحابة الكرام كانوا ينقلون القرآن إلى التابعين ويفسرون القرآن لهم كما يعلمون التابعين السنة النبوية ويشرحون ذلك لهم ويعلمونهم التنزيل والتأويل والفقه والحكمة، فقاموا رضوان الله عليهم بالواجب حق القيام فجزاهم الله عن هذه الأمة عظيم الجزاء، وكذلك فعل أئمة التابعين مع من جاء بعدهم، ويستحيل في حق الصحابة وأئمة التابعين أن ينقلوا علما لا يفهمونه وأن يبلغوا فقها لا يدركون أسراره، فهم أعلم ممن جاء بعدهم، إنهم أعلم وأحكم وأسلم، إذ كيف يتصور المرء خير الأجيال وأعظم الرجال وقبة الأمة ينقلون القرآن وهم لا يفهمونه، ويبلغون السنة ولا يعلمون أسرارها، وأنهم زوامل* (*وهو تشبيه في التحمُّل أو عدم الدِّرَاية، وبهذا كان يصفهم مخالفوهم) أسفار، فهذا إزراء بأعلم هذه الأمة بالكتاب والسنة منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم الى قيام الساعة، وأنهم ليسوا مرحلة زمنية مباركة نذكرهم على سبيل الصلاح والتقوى والجهاد، بل هم أهل العلم بالتوحيد والسنة والفقه الرشيد والفهم السديد وكل من جاء بعدهم فهم عيال عليهم، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل.

ووقع الاختلاف بعد الصحابة من قبل التابعين في مسائل متعددة سواء في التفسير أو الحديث أو الفقه بسبب الاختلاف في النصوص تصحيحا وتضعيفا، تواترا وآحادا، قطعا أو ظنا، وفي معانيها وجوبا واستحبابا، كراهة أو تحريما، واستنبطوا من خلال ذلك وغيره أحكاما متعددة كما أن الواقع الذي يختلف من بلاد إلى بلاد كان له الدور العظيم في اختلاف المجتهدين، بل كان الرجل الواحد يختلف مذهبه من العراق إلى مصر كالشافعي مثلا، وربما كان للإمام الواحد الأقوال المتعددة باختلاف الزمان والمكان والأشخاص أو اختلاف التلاميذ والنقلة، لكن هذا الاختلاف في الزمن الأول كان بالجملة اختلافا إيجابيا أثرى الفقه الإسلامي وفجر ينابيعه، وجعل الأمة أعظم من الأمم السابقة تحاج كل الثقافات وتعلوا كل الحضارات بالحق المبين، وتغرس الأمة رايتها خفاقة أمام الخلق أجمعين، لكنها لم تنشئ مذاهب فقهية بالمعنى الذي جاء بعدهم فضلا عن أن تفتن الأمة بالتعصب المذهبي ولا داعي للحديث عن التمذهب السياسي وتسييس التمذهب فهذا شيء يتنزه عنه أولئك الكبار، فهم أعظم من ذلك كله وأكبر رضوان الله عليهم، هذا والاختلاف في كل أحواله ولو كان معتبرا تركه أفضل ابتداء، لكن شاءت حكمة الله أن يختلف الخلق.هود 118

فالاختلاف بين العلماء إذا صدر من أهله واستفرغ الناس الوسع في طلب الحق وكان القصد حسنا وكانت المسائل محتملة فهو اختلاف معتبر، وإذا فهم الناس ذلك ولم يسارعوا إلى الفتن كما هو دأب العوام الذين زادوا الطين بلَّة، فلو أن العلماء التزموا بالضوابط الشرعية ووقف العوام مكانهم ولم يتدخل المفسدون في الأرض لما وصل الأمر إلى ما وصل إليه من المخازي  والفتن والعداوات مما يخالف المقصد من طلب العلم ونشره وخدمته، ولكان التنافس فيه على الخير والاجتهاد في الطلب والسعي في النفع، ولا شك أن الأمر يكون في هذه الأحوال محمودا بشروطه الشرعية وضوابطه الدقيقة وهو الذي حصل في الغالب في الزمن الأول.

وإن الحديث عن زمن الرواية لا يعني أن ثقافة الأمة كانت ثقافة شفهية كما هو الأمر عند الأمم الأخرى، بل علم الأمة الإسلامية كان مكتوبا منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام من حيث الجملة، وكان لكل قارئ أو مفسر أو محدث أو فقيه أصوله المكتوبة وخاصة في علم الحديث الذي هو أدق العلوم وأنفسها لأن غيره من العلوم كالعربية وغيرها تجد لها من له بها علم أو إلمام بذلك، أما الحديث فهو ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد تكون طرقه غريبة وأسانيده مفردة فكان الاهتمام به أكثر والانشغال به أوكد لأنه شرع من الله عز وجل، فهو يخصص القرآن ويقيده ويبينه ويفسره، وينشئ أحكاما لا توجد في كتاب الله عز وجل، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، فكان إذا نزل عالم أرضا سئل عن مروياته وعرف بمصنفاته وانتسب إلى أشياخه حتى إذا وهم أو أخطأ طولب بأصوله، وكان أئمة الجرح والتعديل وعلماء التاريخ وجهابدة الرواية إذا أتوا عالما تدارسوا معه أصوله وكتبه، حتى يعلم الناس أن هذه الأمة كتبت علومها منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد كان القرآن كله مكتوبا في زمن النبوة لكن الصديق جمع القرآن الكريم وفرق شاسع بين الكتابة وبين الجمع، ولا سيما أنه جمع مخصوص لغرض مقصود وهو جمع القرآن الكريم لمَّا استحر القتل بالقراء من الصحابة يوم اليمامة وخاف الصديق والفاروق ضياع القرآن، وأما جمع عثمان فهو جمع الأمة على المصحف الإمام فالجمع الأول مخافة ضياع القرآن والجمع الثاني لجمع الأمة على مصحف إمام فهذه الأهداف عظيمة والغايات نبيلة، أما مجرد الكتابة فكانت منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما كتب عدد من الصحابة الكرام الحديث النبوي في زمانه وبإذنه صلى الله عليه وآله وسلم وكتبوا غير ذلك من الأشعار والحكم والأمثال والأنساب وغير ذلك، فالتفريق بين زمن الرواية وزمن التدوين كالتفريق بين كتابة القرآن وجمع القرآن.

فزمن الرواية كانت فيه الكتابة ظاهرة في كل العلوم الشرعية لكنها لم تدون بالطريقة التي وقعت زمن التدوين، فالعلم في زمن الصحابة والتابعين كان في الصدور لأنهم عظماء في العلم وعباقرة في الفهم وربانيون في العبادة وليوث في الوغى، ثم جاء من بعدهم فلم يكن لهم بالأمر طاقة كمن سبقهم فأصبح العلم في الكتب مع الصيانة والخدمة والاستقامة وتعظيم العلم، ثم خلف من بعد ذلك خلوف ضاقوا بالعلم في الصدور، وهجروه في الكتب، فأبدلهم الشيطان الباطل عن العلم النافع والبدعة عن السنة والفتنة عن الهدى، وهذا عين ما حصل لليهود والنصارى، فسلك أهل الأهواء والبدع طرائقهم حذو القذة بالقذة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

والغرض في بحثنا أنه لم تكن في زمن الرواية مذاهب معينة ولا تعصب لإمام ولا مذهبية فرقت الأمة ولا فتنة بلغت إلى ما لا يحمد عقباه بين المذاهب الفقهية، ناهيك عما حصل في الأزمنة المتأخرة من المخالفات الشرعية حتى لعن آخر هذه الأمة أولها، وحتى صدق الكاذب وكذب الصادق، وخون الأمين وأمن الخائن، ونطقت الرويبضة بالتصحيح والتضعيف والتحليل والتحريم والتعديل والتجريح من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وكل ما يستدلون به من أحوال السلف والآثار عن الصحابة والتابعين لتبرير المذهبية وللتأصيل للتعصب المذهبي وللتمذهب السياسي فهو كذب وبهتان وزور وتحريف تعوده أهل الباطل للتزييف والتحريف كما هو دأبهم في تحريف القرآن الكريم وسنة سيد الأنبياء والمرسلين، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.الزخرف 18

رابعا : الفقه في زمن التدوين

في مطلع القرن الثاني الهجري أمر عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي الصالح بأن تجمع السنة النبوية بأمر رسمي من قبل الخلافة، فتكثفت الجهود وقامت كل الجهات وتعاونت جميع الأطراف لجمع السنة النبوية، وبدأ التدوين الرسمي الذي أحاطته الدولة الإسلامية بالعناية التامة، ثم بدأ الأئمة في تدوين العلم فكتب ابن جريج بمكة (تـ150هـ)، وبالمدينة مالك الموطأ (تـ179هـ) وابن إسحاق (تـ151هـ) والربيع بن صبيح (تـ160هـ) وسعيد ابن أبي عروبة (تـ156هـ) وحماد بن سلمة (تـ176هـ) كلهم بالبصرة، وسفيان الثوري بالكوفة(تـ161هـ) والأوزاعي بالشام (تـ157هـ) وهشيم بن بشير السَّلمي بواسط (تـ188هـ) ومعمر باليمن (تـ153هـ) وجرير بن عبدالحميد بالري (تـ188هـ) وعبد الله بن المبارك بخراسان (تـ181هـ) وغيرهم من الأئمة في الحديث النبوي والسيرة والمغازي وغيرها من علوم الشريعة وأصولها وقواعدها، واللغة ونحوها وصرفها والشعر وعروضه وفنونه، كل هذا دوّنه العلماء وكتبوه ورتبوه وخدموه وأصّلوه ثم شرحوا ذلك واختصروا هذه الكتب اختصارا ليسهل حفظها ويتيسر تداولها، فأصبحت علوم الشريعة وما يلحق بها مدوّنا مكتوبا محفوظا مؤصلا بدقة متناهية وعمل جبار.

لقد كان هذا التدوين جمعا للعلم، فأصحاب الحديث كتبوا كل ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سواء كان صحيحا أو حسنا أو ضعيفا أو موضوعا مكذوبا على النبي عليه الصلاة والسلام، فكل ما ذكر من حديث بعد زمن التدوين فليس من الحديث النبوي إطلاقا، ثم غربلوا ما جمعوه فميزوا صحيحه من ضعيفه وأصيله من دخيله، كما دون العلماء علوما شتى في التفسير والفقه واللغة والأصول، وكانت الأسانيد والعدالة والضبط وإتقان المتن وفهم المرويات وهي علوم إسلامية صرفة لم تعهدها أمة من الأمم هي المعيار الدقيق والميزان العميق لضبط كل العلوم الإسلامية، وهذه ميزة عظيمة لهذه الأمة المباركة وهي ضبط الإسناد وإتقان المتون في جميع العلوم الشرعية لا توجد عند أي أمة من الأمم حتى أقر صناديد المستشرقين معترفين على رغم أنوفهم.

والذي يجب الوقوف عليه في بحثنا هذا عن تاريخ التشريع الإسلامي وتطور الفقه عند المذاهب المختلفة أن زمن التدوين لم تظهر فيه مذهبية ولا تعصب مذهبي ولا تمذهب سياسي البتة، فظل  الاجتهاد قائما من قبل الأئمة، ويختلفون في مسائل شتى لكن لم يتميز مذهب عن مذهب ولم تتعصب طائفة لقول دون قول، فظل الأمر متسعا وإن كانت الخلافات في القرن الثاني هي أكثر منها في القرن الأول لكن لم يظهر مذهب بعينه.

وفي زمن التدوين هذا اتسع الخلاف بين أهل المدينة وأهل الكوفة، فكان يقال هذه أصول أهل المدينة وهذه قواعد أهل الكوفة في الفقه، كما اختلف أهل الكوفة مع أهل البصرة في النحو واللغة وعرف القدر والزهد والاعتزال في أهل البصرة والنصب في أهل الشام والتشيع في أهل الكوفة والتجهم في أهل خراسان.

وفي ميدان الفقه الذي يهمنا في هذا الموضوع عرف أهل المدينة بالحديث وأهل الكوفة بالرأي، فكانت هذه إرهاصات لما يحصل في أزمنة التمذهب والتزام أصول إمام من أئمة الفقه.

خامسا:  فقه الحديث وفقه الرأي وعلماء الظاهر

في زمن التدوين كتبت المطولات في كل مذهب من المذاهب الفقهية، ثم اختصرت هذه المطولات وشرحت هذه المختصرات وأصبح لكل مذهب من المذاهب الفقهية أئمة وعلماء ومشايخ وشروح ومختصرات وما إلى ذلك، وألفت في كل مذهب كتب تتعلق بأصول المذهب وفروعه وقواعده الفقهية والنوازل والفتاوى واتسع الأمر اتساعا شديدا إلا أنه رغم ما في هذه الثروة الفقهية العظيمة من الفوائد النادرة وتنوير الملكات والمنافسة الشريفة إلا أنه قد ترتب على ذلك مفاسد عظيمة وتفرق شنيع وعداوات وبغضاء وتحريف للكلم عن مواضعه وغدت الأمة شيعا وأحزابا.

لقد كان الحديث منتشرا في أرض الحجاز وخاصة في المدينة النبوية، وكان فقهاء المدينة كالفقهاء السبعة وهم مشايخ الإمام مالك ومشايخهم وهم سعيد ابن المسيب (تـ94هـ)، والقاسم بن محمد (تـ102هـ)، وأبو بكر بن عبدالرحمن (تـ94هـ)، وعروة بن الزبير (تـ94هـ)، خارجة بن زيد (تـ99هـ)، وسليمان بن يسار(تـ94هـ)، وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود (تـ98هـ)، وجمهرة من أبناء الصحابة وأحفادهم كسالم وزين العابدين وغيرهم وكلهم قد تتلمذوا على كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكان علمهم بالقرآن علما واسعا وجمعهم للسنة النبوية جمعا صحيحا وفقههم للشريعة فقها دقيقا، وورث إمام الأئمة وفقيه الملة الإمام مالك بن أنس علم المدينة وفقهها وكانت هذه المدرسة المباركة تقوم على فقه السنة والتزام الحديث والعمل بالدليل والتمسك بالنصوص فهي مدرسة فقه الحديث وهم فقهاء المدينة النبوية وهي أشرف المدارس مقاما وأعظمها قدرا.

وكان في العراق وخاصة في الكوفة أعلام مباركون في هذه الأمة كأبي حنيفة النعمان (تـ150هـ) ومشايخه وسفيان الثوري (تـ161هـ) ووكيع بن الجراح (تـ197هـ) رحمة الله عليهم، بل ومشايخهم ومشايخ مشايخهم وهم علقمة بن يزيد والأسود ويزيد وإبراهيم النخعي  وغيرهم من أئمة الكوفة، وكان علمهم بالحديث واسعا ومعرفتهم للروايات معرفة دقيقة وكان منهجهم في الاستنباط وطريقتهم في الاجتهاد تميل إلى الرأي السديد والفقه الرشيد، فهم من خيار الأمة وساداتها رضوان الله عليهم، فشتان بين أئمة الرأي وعلمهم الواسع بالسنة وفقههم للحديث وبين من جاء بعدهم أيام التعصب المذهبي في كل المذاهب الفقهية ثم أصبح تمذهبا سياسيا وتسييسا للمذهب، وقد حصل هذا في المذاهب الأربعة كلها وغيرها من المذاهب الفقهية المعتبرة عند أهل السنة والجماعة.

مدرسة فقه الحديث بالمدينة النبوية ومدرسة فقه الرأي بالكوفة هما نواة فقه الشريعة عند الأمة الإسلامية وحاول بعض الأئمة أن يتوسط بين المدرستين وهو الإمام الشافعي، وظهر في بغداد داود الظاهري مؤسس المذهب الظاهري الذي وسعه ابن حزم الظاهري وأصله تأصيلا دقيقا.

هذا ولم يكن أحد من الأئمة الأربعة وهم أبو حنيفة النعمان (تـ150هـ) ومالك بن أنس (تـ179هـ) ومحمد ابن إدريس الشافعي (تـ204هـ) وأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (تـ241هـ ) ولا غيرهم من الأئمة المعتبرين في الفقه كالليث (تـ175هـ) والأوزاعي (تـ157هـ) والثوري (تـ161هـ) وداود الظاهري (تـ270هـ) وابن جرير الطبري (تـ310هـ) يؤسسون لمذهب من المذاهب الفقهية وإن كانوا بلغوا درجة الاجتهاد المستقل، وكذلك أئمة الحديث من أصحاب الكتب، وإنما كان فقه الحديث عند أقوام وفقه الرأي عند آخرين ومزج بعضهم بين الحديث والرأي، كما أن هؤلاء الأئمة أجمعين لم يضعوا أصولا على طريقة المتأخرين قالوا إنها أصول مذاهبهم وإنما استنبطها تلامذتهم ومن جاء بعدهم بناء على فتاواهم ومصنفاتهم والمدارس التي ينتموا إليها سواء مدرسة أهل المدينة أو مدرسة أهل الكوفة، فلم يعرف في هذه المرحلة رغم اتساع الاختلافات وتنوع المصادر وتعدد المناهج الفقهية رغم ذلك كله لم يعرف مذهب من المذاهب عند المسلمين رغم تهيئهم بسبب فقه الحديث وفقه الرأي ومحاولة المزج بينهما وفقه أهل الظاهر لذلك إلا أنه لم تظهر المذهبية بعد ولا التعصب المذهبي الذي جر على العلم عكس مراده وجعل الفقه معكوسا وكل ذلك على خلاف مقصود الشارع فكان بدهيا أن تكون لهذه المقدمات الفاسدة نتائج وخيمة، فلا داعي للاستدلال بالأخيار من هذه الأمة لما فعله أهل التعصب وفرق كبير بين مالك الإمام وبين من جاؤوا بعده من أهل التعصب المقيت وإن كان في العديد من أئمة المالكية محققون ومنصفون كما في سائر المذاهب الفقهية المعتبرة، وقد قدم هؤلاء العلماء خدمات عظيمة للفقه وقاوموا التقليد وأصروا على الإبداع والتجديد بالقواعد الصحيحة وقد عانو في هذه الطريق معاناة شديدة وقاسوا من علماء السوء متعصبة المذاهب ومن ولاة الأمور ومن طلاب العلم ومن العوام البلاء الشديد والفتن العظيمة لأنهم التزموا طريق الحق وتمسكوا بالصراط المستقيم، وآخرون  آثروا السلامة فكانوا يشيرون إلى الحق من بعيد مخافة الفتنة واجتنابا للبلاء.الأنعام 154

لكن أهل الأهواء والبدع ومتعصبة المذاهب وعلماء السوء حرفوا كل شيء وجعلوا الحق باطلا ووصفوا هؤلاء الأخيار بأنهم أشرار ووسموا أئمة السنة بأنهم أساطين البدعة.الزمر 57

وصلى الله و سلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ومن سلك مسلكه واقتفى أثره نسأل الله أن يجعلنا منهم بمنه و كرمه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

حسبي الله نعم الوكيل

وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد

إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب

كتبه أبوعبد الرحمان عبد الحميد أبو النعيم غفر الله له ولوالديه والمسلمين ليلة الأحد الخامس والعشرين من شهر شوال عام سبع وثلاثين وأربعمئة وألف بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم الموافق 30 يوليوز2016م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *