الرئيسية / مقالات / الاختلاف المحمود والاختلاف المذموم

الاختلاف المحمود والاختلاف المذموم

قبل أن نبدأ في هذا البحث المختصر حول الاختلاف أَبْدَأُ بملاحظات كانت من أسباب كتابة هذا البحث.

لقد لاحظت في هذه المِنْحَة المباركة التي يَسَّرَهَا الله عز وجل حيث أراد بنا أعداؤنا كيدا عظيما فانقلب السحر على الساحر لأن الله يدافع عن الذين آمنوا فغدت فتحا مبينا سَتَلِيهِ بإذن الله فتوحات عظيمة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

أقول لقد لاحظت أن قلوب المؤمنين مليئة بحب الله ورسوله وتعظيم كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأن المخلصين في هذه الأمة لا يرضون الضَّيْمَ والظلم والفساد والفتنة، وإنهم يَهُبُّونَ للنجدة بشهامة وإباء، ويبغضون الباطل وأهله والفساد وذويه.

والذي أثار انتباه العديدين أن الغيوم الكثيفة التي كانت بين العديد من الصالحين إنما هي غيوم وهمية وسُحُبٌ خيالية سرعان ما انْدَثَرَ السَّرَابُ وطاشت الأوهام، فكثير من الإخوة الطيبين كان يظن بعضهم ببعض ظن السَّوْء بسبب الوشايات والأخبار المقلوبة وما رسخ في الأذهان عن بعضهم البعض، فطاش السَّرَابُ الكاذب والخَيَالُ الوَاهِمُ فإذا القلوب تتفجر وُدّاً وتفيض حبا، وإذا بالعقول تُشِعُّ نُضْجاً، وقد كان البعض يظن في البعض غِلظة وقَسوة، ويحسب قوم قوما آخرين لا يملكون أفهاما ولا يَعُونَ أثقالا ولا تُؤلِمُهُم جراحا ولا يبالون آلاما، بل حسب البعض أنَّه قد أُوصِدَت الأبواب وخُتِمَ على القلوب وغُلِّفَت العقول ويَبِسَتْ النفوس وماتت الكرامة ودفنت العزة، فإذا بهذه المنحة التي حسبها المفسدون ضربة قاضية تتحول إلى إحياء هذه الأرواح الفَيْحَاء إذِ اهْتَزَّت ورَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيج وعادت على الصهاينة والمجرمين طعنة في نحورهم فانقلبوا صاغرين يُخْرِبونَ بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار.

وإذا أراد الله نشر فضيلة طُويَت أتاح لها لسان حسود.

إن أرض أهل الصلاح طيبةٌ بِرُبْوَة إذا أصابها الوابل يُضاعف عطاؤُها وإن لم يصبها الوابل فَطَلٌّ لأنها أرض طيبة يكفيها اليسير لتعطي الكثير.

وقد خنق أكباد المرتدين وفتَّت قلوب المفسدين ما رأوا عليه أبطال التوحيد من شهامة وعِزَّة ورغبة في نصرة الحق والوقوف مع المستضعفين وقوف العظماء فَخَارَتْ جَعْجَعَةُ المنافقين وتساقطت عَنْجَهِيَّةُ المُتَحَذْلِقِين، فإنَّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.

لهذه القلوب الطيبة والعقول الرَّشيدة والشجاعة الفريدة والشهامة النَّادرة والنّصرة الخالصة والهِمَّة العالية والرجولة الصادقة والنزاهة الأمينة والآفاق الواسعة أَبْدَأُ بعون الله وتوفيقه في غرس بَذْرَةِ فتح حوار أَوَّلِيٍّ سيتحول إلى بحوث ودراسات ونقاش علمي نفعا للأمة وجمعا للشمل على الحق المبين وتقوية للصف ضد الخونة والمجرمين وطيا للطريق نحو تطبيق شريعة رب العالمين وما ذلك على الله بعزيز.

فهذا البحث هو مزيد تشجيع للأبرار ومد أياد صادقة وفتح قلوب طيبة وترشيد عقول نَيِّرة حتى تصبح جبهة أهل الحق صخرة قوية لا تبالي بِنُباح الفاشلين ولا نَهِيقِ الساقطين.

وإنني إذ أخاطب إخواني إنما أُلقي وجهة نظر قابلة للنظر ولا أُملي على طالب ولا أَفرض على باحث، وأنا أعلم جيدا أن الكثيرين من شيوخي المباركين وأساتذتي الفضلاء وإخواني الطيبين أعلم مني بكثير بالكتاب والسنة، والأصول والقواعد والدلائل والمسائل والمناهج والطرائق، وأنا بفضل الله ومَنِّه أتشرف أني تلميذ للكثيرين منهم بل كنت أقل تلامذتهم إتقانا للعلم واكتسابا للفهم وتذوقا للحِلْم لكن يشفع لي أني أحببت العلم الشرعي وأهله حبا جما، فنرجوا الله أن تكون هذه القطرة الطيبة بداية غيث نافع صيب يرحم الله به البلاد ويكرم العباد إنه وَلِيُّ ذلك والقادر عليه.

الاختلاف المحمود والاختلاف المذموم

انطلاقا من قول الله تعالى:هود 118-119آل عمران 105.الروم 30-31الشورى 13

إن الاختلاف المحمود سنة كونية قدرية، وقد خلق الله الخلق للابتلاء والاختبار ليَميز الله الخبيث من الطيب وليَهلِك من هلك عن بيِّنة ويحيى من حيي عن بَيِّنَة.

والاختلاف المحمود هو الذي يُحقق معنى الاستخلاف في الأرض، وقد اختلف الملائكة الكرام والأنبياء العظام وأولياء الرحمن وجهابذة الإيمان، لأن الاختلاف سنة كونية قدرية ما دام الاختلاف محمودا.

فالاختلاف ينقسم إلى اختلاف محمود واختلاف مذموم، وقد يكون الاختلاف معتبرا وقد يكون غير معتبر، والاختلاف الذي لا يعتبره الشارع هو أقسام وأنواع بعضه أشد من بعض.

والاختلاف المحمود هو الذي وقع بين الكرام مما اعتبره الشارع الحكيم لأنه يوافق المقاصد ويُحقق المصالح ولا يرجع على الأصول بالبطلان وهذا الاختلاف له أسبابه الشرعية.

فمن الاختلاف المحمود ما يُقبل فيه كل الأقوال كاختلاف القراء والرواة والطرق، ففي باب القرآن الكريم قد توفرت كل الشروط الشرعية من صحة السند وموافقة المصحف العثماني ولو احتمالا والعربية ولو بوجه، فهذا الاختلاف يُقبل كله لأن القراءات المتواترة كلها قراءات صحيحة لا يُرد منها شيء البتَّة، وكذلك الروايات القرآنية والطرق المعتمدة.

كما أن السنن النبوية الصحيحة التي جاءت بصور مختلفة فالعمل عليها جميعا ما لم يكن ثَمَّتَ مُعارض شرعي معتبر كنسخ أو ضعف دليل أو تخصيص أو تقييد أو مخالفة إجماع مُتيقن أو ما إلى ذلك من الموانع المعتبرة شرعا فيُعمل بذلك كله لأنه سنة صحيحة معتبرة كصلاته صلى الله عليه وسلم وأذكاره وأدعيته والكثير من الأحكام النبوية التي صحت إلى النبي عليه الصلاة والسلام من غير مُعارض شرعي معتبر، فهذا القسم يُذكر فيه الاختلاف أي تعدد الصور الصحيحة الثابتة فيُعمل بذلك كله، لأنه قد صح جميعا عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا يُنكِر أحد على أحد شيئا من ذلك ما دام كل ذلك صحيحا ولا يوجَد معارض شرعي معتبر.

ومن الاختلاف المحمود اختلاف التنوّع لا اختلاف التضّاد وهو ما تتعارض فيه الأدلة، والتعارض غير التناقض لأن التناقض يستحيل فيه الجمع بين النصوص وهذا غير موجود البتّة في هذه الشريعة المُعظَّمَة، أما التعارض فيمكن الجمع فيه وهو الغالب على النصوص المتعارضة أو الترجيح حسب القواعد الشرعية والأصول العلمية وما إلى ذلك من الطرائق المعتمدة عند أهل العلم، فيقوم أهل العلم وأساطين الاجتهاد بالجمع أو الترجيح أو النسخ أو الاسْقاط فيختلف الناس، فاختلاف العلماء ممن توفرت فيهم شروط الاجتهاد واستفرغوا الوُسْعَ في طلب الحق وكانت المسألة المختلف فيها محتملة ولم يكن ثَمَّتَ سوء نِيَّة ولا خُبث طَوِيَّة بأن كان العَالِم حسن القصد فلا شك أن هذا من الاختلاف المحمود من حيث الجملة.

وقد يكون الاختلاف في مسألة جزئية وقد يكون في أصل كلي وقد يكون خفيا وقد يكون ظاهرا وقد تكون الشبهة قوية وقد تكون ضعيفة وقد تكون الأزمنة والأمكنة قد انطفأت فيها أنوار النبوة وقد لا يكون الأمر كذلك وقد يقلد الرجل من يثق في دينه وعلمه فيحسبها صوابا وقد يعرض المرء ولا يبالي وقد يكون الرجل من أهل العلم والصلاح والخير فتنزلق قدمه فتكون كبوة جواد وقد يكون الرجل من أهل الأهواء والبدع وبغض السنة وأهل الحديث مما يجعله صاحب إصرار على الباطل، فالاختلاف هو نفسه أقسام وأنواع.

أما الذي هو في أصل كُلِّي أو كان ظاهرا ظهورا بينا أو كانت الشبهة فيه ضعيفة أو في الأزمنة والأمكنة التي لم تنطفئ فيها أنوار النبوة أو كان في مسائل لا يَحِلُّ فيها التقليد المذموم أو صدرت من أساطين أهل البدع والأهواء وجهابذة الإصرار على مخالفة الحق فهذا النوع هو الاختلاف المذموم وهو شَرٌّ كُلّه ولا يحل هذا الاختلاف المذموم في الاسلام البَتّة، والآية القرآنية التي سبق ذكرها وهي قول الله تعالى:آل عمران 105.

فالاختلاف الذي يؤدي إلى التفرق والعداوة والبغضاء والفتنة والفساد في الأرض فهذا شَرٌّ عظيم وفتنة كبرى، فلا يجوز بحال الاستدلال لجواز الاختلاف المذموم بما ورد في جواز الاختلاف المحمود فهذا مُنَافٍ لِمُراد الشارع ومُضَادٌّ لمقاصد التوحيد، كما أن الأمر قد يصل أحيانا الى الشرك كقوله تعالى:الروم 30-31

فالذين يختلفون في أصل التوحيد والنُّبُوّة والمَعَادِ في الأمور الظاهرة والمسائل القطعية أو مما ينافي الإيمان من جميع الوجوه فلا شك أن هذا الاختلاف ضَرْبٌ من الشرك ونوع من الكفر، فالاختلاف المذموم شَرٌّ كُلُّه وقد يكون هذا الاختلاف المذموم معصية وقد يكون بدعة وقد يكون كفرا عياذا بالله، فكيف يستدل الناس عن الاختلاف المذموم الذي هو شر كله بالاختلاف المحمود الذي هو خير كله، مثال ذلك أن الإمام أحمد قال في إسحاق ابن رَاهُويَه لم يعبر الجسر أحد إلى بغداد كإسحاق أي في العلم لكن لا يزال الناس مختلفين فمراد أحمد أن ما يقع بينه وبين إسحاق من خلاف في مسائل حديثية أو فقهية فهو من الاختلاف المحمود لأنه وقع بين إمامين عظيمين من فقهاء الحديث وتوفرت فيهم الشروط الشرعية للاجتهاد المطلق فهذا له معنى صحيح أما أن يُتَّخَذ ذَرِيعَة للاختلاف المذموم فهذا حرام شرعا، ومُحَال أن تمدح الشريعة المُعَظَّمة الاختلاف المذموم والافتراق والتناقض والاضطراب فالشريعة منزهة عن هذا كله فبطل استدلال أهل الاختلاف المذموم لأن هذا مما يناقض الشرع ويعود على الأصول بالابطال وعلى المقاصد بالفساد.

ومما يجب أن ينتبه إليه الباحث أن الاختلاف قد يكون في المنصوص أي في الكتاب والسنة خاصة في ظواهر الكتاب والسنة لأن الدليل في الآية القرآنية والحديث الصحيح قد يكون نصا لا يحتمل التأويل وهو قطعي الدِّلالة وقد يكون ظاهرا وهو ظَنِيُّ الدلالة وهذا الظاهر قد تَحُفُّ به من القرائن المتعددة ما يجعل ظهوره قويا، فالاختلاف في ظواهر النصوص والبحث عن المُرَجِّحات التي تجعل الظاهر قويا جدا أو تعتبره راجحا رجحانا كبيرا فهذا ضَرْبٌ من الاختلاف في المنصوص وهذا باب واسع وفيه اختلف الناس وتعددت الآراء وهو مجال الاجتهاد الواسع.

أما الاختلاف في القضايا الإجتهادية التي لم تَرِد فيها نصوص من الكتاب والسنة أو وردت على سبيل الإيماء والإشارة، فهذا اختلاف لا يجب أن يأخذ حكم الأصل أي الاختلاف في المنصوص فمثلا نهى الشارع عن الصُّوَرِ والمعهود في ذلك الزمان هي الأصنام ذوات الظل أو ما كان يرسم باليد فَحَرَّمَ الإسلام تصوير ذوات الأرواح، فهل يلحق بالتحريم الصور الفوتوغرافية والتصوير بالكاميرا فهذا قياس على المنصوص وسواء كان هذا القياس صحيحا أو كان فاسدا يجب أن لا نعتبر القائل به يُبِيحُ الأصنام وذوات الظل ورسم ذوات الأرواح باليد فنجعل حكمهم واحدا ونجعل حكم المصور للأصنام والمصور لذوات الأرواح باليد كالذي يصور بالكاميرا أو الصور الفوتوغرافية الحديثة حتى عند من صح عنده القياس، وكذلك إذا حرم الشيء سدا للذريعة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند القبور فهذا النهي هو سد للذريعة عن الافتنان بالأموات فلا يُمْنَعُ بناء المساجد التي تجاور المقابر ولا تُمْنَعُ الصلاة في هذه المساجد لأن النهي في الأصل كان من باب سد الذريعة.

فاعتماد القياس الجَلِي أو الخفي واعتبار المصالح المرسلة والاهتمام بسد الذرائع أو ما إلى ذلك من أصول الاجتهاد فهو لا يأخذ حكم المنصوص ولو كان صحيحا، ولهذا بالغ أٌقوام في منع أشياء وغلا آخرون في إباحة أمور والموضوع أًصلا هو في مسائل اجتهادية لا في نصوص الكتاب والسنة والحق يرجح بالأدلة.

فإذا اختلف الناس في مسائل الاجتهاد فلا يجوز أن نحكم على الناس كما لو تركوا النّصوص القرآنية والأدلة النبوية، كما أن هذا لا يمنع من اعتبار الباطل باطلا والمردود مردودا إنما كلامنا عن الرتبة والدرجة فلا تقل مثلا لمصور بالكاميرا أنت تضاهي خلق الله وقد لعن الله المصورين فتقول له مثلا فعلك هذا باطل لأنه بالقياس على المنصوص في التحريم يكون الحكم واحدا وقد يجادلك في الفرع لكنه قد يوافقك موافقة تامَّة في تحريم الصور ذات الظل أو الرسم باليد لذوات الأرواح.

ثم إن هذا الكلام إنما هو عن الاختلاف بين أهل الاسلام فقد يكون صحيحا وقد يكون باطلا، وقد يكون معتبرا وقد يكون غير معتبر، أما الاختلاف المذموم بين أهل الإسلام وغيرهم من أصحاب المِلَلِ الأخرى كاليهودية والنصرانية أو ذوي العقائد والمذاهب التي تناقض الإسلام كالعلمانية والحداثة والماركسية أو ما يحصل بين أهل التوحيد والمشركين والمرتدين وأعداء الدين، فأقوالهم ومذاهبهم ومناهجهم كلها باطلة بطلانا كاملا وليس من الاختلاف الذي يُنظر فيه وإنما هو من الاختلاف القبيح و الشرّ المستطير، فلا دَخْلَ لهؤلاء جميعا في موضوعنا هذا وإنما لهذا المبحث موضع آخر.

وقد لَفَتَ نظري أن الكثير من الفضلاء والعديد من الأخيار وهو يناصر الحق فيِ النزاع مع القناة الثانية “دوزيم” وقد أحسنوا جزاهم الله خيرا وقالوا كلاما نافعا واتخذوا موقفا مشرفا أحسن الله إليهم إحسانا ورفع درجاتهم في الجنة.

أقول قد عجبت أنهم يشيرون إلى أنه وإن كان الاختلاف قائما سنقوم بواجبنا في مواجهة هذه القناة وغيرها من مصادر الفساد وقد أحسنوا بهذا الموقف الشرعي، لكنني استغربت غاية الاستغراب تركيزهم على مسألة الاختلاف.

فأما إذا كان الاختلاف من القسم الأول كاختلاف القُرَّاءِ وما ورد في السنن الصحيحة من تَعَدُّدِ الأدعية والأذكار وصلاة النبي عليه الصلاة والسلام فلا أحسب هذا مما يَلْتَفِتُ إليه العلماء والباحثون والدارسون وطُلاَّب العلم وهذا قطعا أمر بعيد وغير مراد من هؤلاء الأفاضل أحسن الله اليهم، وإن كان المراد الاختلاف المعتبر فهذا اختلاف تنوع وهو سنة كونية وطريقة شرعية وأَمْرٌ عَاشَهُ الصَّحْبُ الكِرام وأئمة التابعين وفقهاء الأمصار وأئمة الفتوى بل اختلف الكرام من الأنبياء والمرسلين وملائكة الرحمن المعظمين، بما هو من روح الشريعة ومقاصدها العظيمة ومن الجمال الذي تفوح أنواره للعالمين.

فهذا النوع من الاختلاف المعتبر إذا صدر من أهله وكانت المسألة مُحْتَمِلَة مع القصد الحسن فإنَّ أهله بين الأجر والأجرين وهذه درجة عظيمة ومرتبة سَنِيَةٌ، بل ولو لم تتوفر فيه كل الشروط لكنه لا يعود على الأصل بالإبطال فيكون صاحبه معفوا عنه ولا يُحاسب ولا يُعاقب إلا من كان على خلاف الصراط السًّوِيِّ والنهج القويم، من أصحاب الاختلاف المذموم وأهل الخلاف القبيح.

أما الاختلاف إذا أصبح واقعا، فالواقع لا يرتفع فنقول فيه ما سبق وإلا فلو ترك المسلمون الاختلاف إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلا لكان هذا أولى وأحرى أما والواقع منذ قرون على الاختلاف فيجب التعامل معه بالقواعد الشرعية والأصول العلمية دفعا للشرور والعداوات والبغضاء وحرصا على عدم تحريف الشرع والقول على الله بغير علم والتقرب الى الله بما لا يحبه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.

فإنني أريد أن أوضح للفضلاء الأخيار والأَحِبَّة الكِرام منهجي في عقيدة التوحيد ولزوم السنة وسلوك الهدي النبوي والمواقف التي أتمسك بها على طريقة سلف الأمة وأئمتها في أمور السياسة الشرعية وغير ذلك فإن كانت في هذه المسائل المنهجية والطرائق الدعوية ما يخالف الحق فيجب على إخواني الفضلاء وأحبتي الكرام أن يُبَيِّنوا وجه الحق بالحجة الشرعية وإنَّا بإذن الله ندور مع الدليل حيث دار ولا نبغي بغير النبي الكريم إماما ولا نعرف إلا الحق طريقا وسبيلا ومنهاجا ولا نُعَوِّلُ على أقوال الرجال مهما علا كعبهم إذا خالفوا الرسول الأعظم والنبي الأكرم فهو إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء وكل أهل الحق من نوره يلتمس صلى الله عليه وآله الكرام وصحبه الأخيار ومن سلك مسلكهم ونسأل الله أن يجعلنا منهم الى يوم الدين.

أما ما يتعلق بمباحث الاعتقاد فقولنا هو قول أهل الحديث وأئمة الأثر وقد يسر الله لنا مجالسة شيخنا الكبير الدكتور “محمد تقي الدين الهلالي الحسيني” رحمه الله رحمة واسعة ولا زلنا بفضل الله وتوفيقه على ما فارقناه عليه حَذْوَ القُذَّةِ بالقذة ونرجوا الله أن يثبتنا على هذا الاعتقاد الصحيح والإيمان السليم والتوحيد الخالص حتى نلقى الله جل وعلا إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ففي باب التوحيد وهو توحيد الربوبية والصفات وتوحيد الإلاهية والعبادة لا يجوز بحال أن يُعْتَقَدَ في مخلوق ما هو من خصائص الربوبية ولا يحل البتة أن تُصْرَفَ العبادة التي لا تليق إلا بالله لغير الله ولو كان مَلَكاً مُقَرَّباً أو نبيا مرسلا، فكل خصائص الربوبية والوحدانية من الخلق والرزق والإحياء والإماتة وعلم الغيب لا يجوز في الإسلام الذي هو دين التوحيد الخالص أن يُعْتَقَدَ في مخلوق أنه يعلم علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله لأن هذا لا يَصْلُحُ ولا يليق إلا بالله علام الغيوب، أو أن عبدا يقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله فهذا كله شرك أكبر مُخْرِج من ملة التوحيد لأنها نواقض تُنَافِي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمن ذبح لمخلوق أو استغاث بمخلوق في ما لا يقدر عليه إلا الله أو اعتقد في مخلوق ما هو من خصائص الربوبية أو صَرَفَ لعبد من العبادات التي لا تصلح إلا لرب البرية فقد نَقَضَ تَوْحِيدَهُ وهَدَمَ إيمَانَهُ وتَلَبَّسَ بالشرك الأكبر.

أما تلاعب عُبَّادِ القبور وسدنة الأضرحة ممن يصرفون العبادة للمقبورين والمشاهد الشركية والمواسم الكفرية فيذكرون التَّوَسُّلَ والتَّبَرُّكَ والزيارة والرُّقْيَة فهذا من تلاعبهم المعهود ومراوغاتهم المكشوفة، فالزيارة والرقية والتوسل والتبرك ينقسم إلى شرعي ثبت بالكتاب والسنة وإلى بدعي فيه المحرمات والضلالات وإلى شركي نقض أصحابه تَوْحِيدَهُم وعادوا القَهْقَرَى إلى ما كان عليه المَلَأُ من قريش من الشرك الأكبر والكفر الأعظم الذي بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم للقضاء على شركهم حتى يعم التوحيد الأرض وأن يُدْحَرَ الشِّرك وأهلُه ويُزَالَ الكُفرَ وذَوُوه.

كما أن القول بالعذر بالجهل أو الخطأ أو التقليد أو التأويل فله ضوابط دقيقة لكن عبَّاد القبور توسعوا في ذلك بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولا يمكن اعتبار شيء من ذلك إلا ببينة شرعية أما هذا التوسع المذموم فهو هَدْمٌ للتوحيد ونَقْضٌ للإيمان وعودة بالناس إلى الجاهلية الأولى.

فمن كان من عبَّاد القبور والسَّحَرَةِ والمُشَعْوِذِينَ أو كان يساندهم ويؤيدهم ويذب عنهم وهو يعلم باطلهم فبيني وبين هذا من الاختلاف الكبير كما بين السماء والأرض لأن التوحيد يضاد الشرك والإيمان يناقض الكفر فماذا بعد الحق إلا الضلال.

فالأموات والغائبون والحاضرون غير القادرين فيما لا يقدر عليه إلا الله هؤلاء لا يجوز الاعتماد عليهم ولا دُعَاؤُهُم ولا نِدَاؤُهم ولا الاعتقاد الشِّرْكِيِّ فيهم ولا صرف شيء من العبادة التي هي حق الله على المخلوقين لغير الله البتة.الذاريات 56

هذا من حيث الجملة وفي بعض التفاصيل ما يكون بدعة وقد يكون محرما وقد يكون خلاف الأولى وقد تكون المسألة خلافية وقد جعل الله لكل شيء قدرا فالتوحيد الخالص نور على نور والشرك القبيح ظلمات بعضها فوق بعض ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

وكذلك في باب الأسماء والصفات فمذهب أهل الحديث وأئمة الرواية أنهم يسلكوا في ذلك مسلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين فكل قول على خلاف مذهب سلف الصالح من التعطيل كالمعتزلة أو التحريف كالأشاعرة أو التفويض كمن حاول الجمع بين أهل الحق ودعاة الباطل فهؤلاء جميعا من حيث النَّوعُ لَيْسُوا عَلَى شيء ومن حيث المعين فيجب توفر الشروط وانتفاء الموانع، فمن خالفنا في ذلك أو خالفناه فالاختلاف هنا معتبر وهو خلاف قبيح ومذهب شنيع حتى يسلك مسلك السلف الصالح فلا يُعَطّلُوا ولا يُحَرِّفُوا ولا يُفَوِّضُوا وإنما يُثْبِتُونَ ما أثبته الله ورسوله من غير زيادة أو نقصان.

ومن عجائب الأمور أن الأشاعرة يصفون أهل الحديث بأنهم يكفرون المسلمين بغير حق، مع أن الذي يكفر المسلمين هم الأشاعرة فباعتقادهم أن أول واجب على المُكَلَّفِ النَّظَرُ بقواعدهم وأصولهم المخالفة لمذهب أهل الحق والحديث والأثر، وهذا الذي ذكروه لا يحصل حتى عند جمهور الأشاعرة فكيف بغيرهم قال القرطبي رحمه الله “ذهب بعض المتأخرين والمتقدمين من المتكلمين الى أن لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طَرَقُوهَا والأبحاث التي حَرَّرُوهَا لم يَصِحَّ إيمانه وهو كافر، فيلزم على هذا تَكْفِيرُ أكثر المسلمين، وأول من يبدأ بتكفيره آبَاؤُه وأسلافه وجيرانه، وقد أورد على بعضهم هذا فقال: لا تُشَنِّع علي بكثرة أهل النار، أو كما قال، قلت: وهذا القول لا يصدر إلا من جَاهِلٍ بكتاب الله وسنة نبيه، لأنه ضَيَّقَ رحمة الله الواسعة على شرذمة يسيرة من المتكلمين، واقتحموا في تكفير عامة المسلمين”اهـ.

والكلام صريح ولا يحتاج إلى تعليق وكم عند الأشاعرة من التناقضات الفظيعة فيما بينهم والردود المبطلة لمذاهبهم ويرمون أهل الحق بالباطل وينسبون إليهم ذامِّينَ ما هو معتمد عندهم وأصل من أصولهم حيث يسمونهم حَشْوِيَّةً ومعناها عند المتكلمين أن أئمة الحديث وأصحاب الآثار لا يدركون أسرار العقليات ولا دقائق الأمور الفلسفية وأنهم لا يفهمون شيئا حتى يسلكوا مسالك المتفلسفة وغرق في أدران القبائح اليونانية كما أن أصحاب التصوف يصفون أهل الحديث والأثر بأنهم محجوبون من الأنوار ومحرومون من علوم الحقائق كما أن غلاة أهل الرأي يقولون عنهم أنهم سطحيون حرفيون ظاهريون لا علم عندهم ولا فقه يحملون العلم ولا يفقهونه كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا، ونقول لهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت.

وأما في مُسَمَّى الإيمان ومُسَمَّى الكفر فنحن نبرأ إلى الله من غُلُوِّ المعتزلة والخوارج ونعوذ بالله من جفاء المرجئة والجهمية، فالعمل من مسمى الإيمان لا ينفكُّ عنه ومن أراد أن يُخرِجَ العمل من مسمى الإيمان فهذا جَهْمِيٌّ جَلْدٌ ومُرجئي خالص والذي يجعل كل عمل شرطا في صحة الإيمان فهذا خارجي مقيت ومعتزلي شنيع.

والإيمان قول وعمل قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح والكفر قول وعمل قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح قال الإمام الشافعي: “وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون الإيمان قول وعمل ونية لا يُجْزِئُ واحد من الثلاث الا بالآخر”اهـ، فلا بد من هذه الشروط الثلاثة للإيمان ولا تجزئ واحدة أو اثنتان فإذا زالت واحدة زال الإيمان.

فمثلا في عمل الجوارح ما هو كفر بمجرد العمل فلا يتوقف على اعتقاد في القلب أو قول باللسان وهي مسألة مجمع عليها كما ذكر الإمام الشافعي رحمه الله، فالذي يتشبَّه بالكفار فيما هو من خصائص دينهم كالجنائز والأعياد واللباس والمعابد وكمن يلبس الزنار أو يبني كنيسة أو يحضر مع اليهود والنصارى أعيادهم في كنائسهم من غير إكراه مُلْجِئٍ فهذا يَكْفُرُ كفرا يخرج به من الملة بمجرد العمل وإن كان يقول بلسانه إن هذه الأمور باطلة أو يعتقد بقلبه أنها كفر بواح لأن عمل الكفار مما هو من خصائصهم الكفرية كلُبس الصليب أو تعظيم ما هو معظم عندهم في دينهم فهو كفر، فالعمل الكفري بالجوارح بمفرده كفر مخرج من الملة وقد أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك ولا يخالف في ذلك إلا غلاة المرجئة وصناديد الجهمية، لكن أن يتوسع أهل البدع فيعتبرون كل مخالفة وإن لم تكن من أعمال الكفار الخاصة بهم يعتبرونها كفرا كالمعاصي والكبائر والذنوب والمخالفات فهذا باطل أيضا إلا أن يستحل الناس الكبائر استحلالا فذلك باب آخر فلا يُكفِّر بالمعاصي والذنوب إلا الخوارج ويجعلهم المعتزلة في منزلة بين المنزلتين وهذا كله من أبطل الباطل، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه.

فمسألة الكبائر كشرب الخمر أو الزِّنا أو السَّرقة أو الرِّبا أو ما إلى ذلك من كبائر الذنوب فأهل السنة والجماعة لا يُكَفِّرُونَ بالكبيرة إطلاقا، فهذه الكبائر إنما يكفر بها أهل البدع والأهواء، أما صاحب الكبيرة وهو شارب الخمر أو الزاني أو السارق أو المُرَابِي فهو عاص مُذنِب وليس بكافر عند أهل السنة والجماعة إلاّ اذا استحلَّ العبد الكبيرة، وأهل البدع والأهواء يعتبرون صاحب الكبيرة إذا فعلها مجرد الفعل ولو مرة واحدة فقد استحل هذه الكبيرة فيُكَفّرونه بذلك، وأهل الإرجاء لا يعتبرون صاحب الكبيرة مستحلا لها إلا إذا اعتقد ذلك بقلبه لأن الإيمان عندهم هو التصديق والكفر هو الجحود والتكذيب فقط، أما أهل الحق فمادام صاحب الكبيرة يعتقد أن الحرام حرام وهو صادق في ذلك فلا يَكْفُرُ البَتَّة وإن فعل وفعل مرَّات ومرَّات، لأن الإكثار من الفعل لمن يُحَرِّمُ المحرمات صادقا لا يُعَدُّ ذلك إصرارا، فالإصرار هو العناد والاستكبار والاعتراض والاستهزاء والاعْرَاض فهذا استحلال للكبيرة لا مجرد اعتقاد الاستحلال بالقلب فقط، فصاحب الكبيرة الذي يعتقد أنها حرام صدقا هذا غير مستحل أما من لم يعتقد أنها حرام بقلبه أو بلسانه أو بجوارحه سواء فعل الذنب أم لم يفعله كمن زنا مثلا فهذا عاص وقد لا يقع المرء في الزنا لكنه يدافع عن الزناة والشواذ والفساق فكل ذلك إصرار إذا كان على سبيل الاستكبار والعناد والاعتراض والتحدِّي والاستهزاء والإعراض فهذا مستحل عند أهل السنة والجماعة، وعندما يسمع المرجئة والجهمية ومن يخرجون العمل من مسمى الإيمان هذا الكلام عن معنى الإصرار على الكبيرة يقولون هذا تكفير بالكبيرة وهذا كذب وزور لأنه من المقطوع به عند أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون بالكبيرة إطلاقا، بل يقول المرجئة والجهمية فيمن يعمل عمل الكفار الذي هو من خصائص دينهم ليس كفرا وهذا خلاف الإجماع ويشترطون في ذلك الاستحلال القلبي وهذه عقيدة غلاة المرجئة وأساطين الجهمية، ويضيفون إلى جهلهم بعقيدة السلف الصالح الدَّعَاوَى العريضة على أنهم أعلم الناس بمذهب السلف الصالح، والجهل المركب أقبح من الجهل البسيط وهذا من البلاء المبين الذي طعن دعوة الحق باسم الحق ولاحول ولاقوة إلا بالله.

فمن خالفنا في مسمى الإيمان أو مسمى الكفر سواء كان من الغلاة أو الجفاة فاختلافنا معه اختلاف جوهري لأن مذاهبهم ممقوتة وأقوالهم مرذولة حتى يَتَّبِعُوا السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين والفقهاء المجتهدين وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وأما فيما يتعلق بلزوم السنة والعمل بالحديث الصحيح وأن لا يُقَدَّمَ على قول الرسول الكريم والنبي العظيم قول أحد من الرجال مهما علا كعبهم لأنه نبي الله ورسوله وهو أصل بذاته وغيره فرع وهو يُسْتَدَلُّ به وغيره يُسْتَدَلُّ له وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يُوحى وغيره يؤخذ من قوله ويُرَدُّ لأن البشر غير معصومين والأنبياء معصومون محفوظون يوحى إليهم وتنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فنتبع النبي محمدا صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة، وهذا لا يمنع أن نعرف للعلماء أقدارهم وللفقهاء درجاتهم وأن نتعلم العلم عند أئمة الدين وأن نتفقه حسب القواعد والأصول لكن أن نتعصب للرجال فيما يخالف الدليل أو أن نُحجب عن نور النبوة بغيوم الأهواء هذا من أبطل الباطل.

فالمُتَعَصِّبَة للمذاهب الفقهية تعصبا شنيعا والمُحَرِّفَةُ للنصوص القطعية لِتُوَافِقَ أقوال الرجال العارية عن الدليل ولَيَّ أعناق النصوص ليَّاً تَزَلُّفًا للحكام وإرْضَاءً للعوام وتعصبا للقيل والقال وتقليدا للذي كان وكان فهذا لا يرضاه مؤمن بالله ورسوله معظم للكتاب والسنة عارف بحقوق الله وَقَّافٌ عند حدود الرب ومن يُعَظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.

وأما فيما يتعلق بالسُّلُوك والتربية والسير إلى الله وتزكية النفس من الأهواء والرُّعُونَات وشغل اللسان بالذكر والقلب بالفكر والاجتهاد في الطاعة والزهد في الدنيا وعدم الاشتغال بالخلق وسَدِّ منافذ الأهواء فنسلك في ذلك مسلك النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولا نغلوا غلو أهل البدع ولا نقول على الله بغير علم، والتَّصوف قد عرف مراحل متعددة أولها تصوف العابدين وثانيها تصوف المريدين وثالثها تصوف العارفين أما تصوف العابدين وهم أئمة السلف كالجُنيْد رحمه الله وأشياخه الكرام كإبراهيم بن أدهم وبِشْر الحافي ومالك بن دينار والفضيل بن عَيَّاض وغيرهم من الزمرة المباركة الطيبة فهؤلاء كانوا على طريقة الصحابة والتابعين وكانوا زهادا أبرارا وعُبَّادا أطهارا فهؤلاء أهل الحق وأئمة الهدى.

أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع.

وهيهات هيهات أن يبلغ الناس هذه القمم السامقة والدرر السَّنِيَّة، فهؤلاء قد اندثروا وحل محلهم أهل البدع فجاء تصوف المريدين وهو مظلم بالبدع والأهواء والأوراد الباطلة والوظائف المظلمة ناهيك عن الغلو في الشيوخ غلوا شنيعا يعتقدون فيهم أنهم يعلمون ما كان وما يكون وهذا من خصائص الربوبية وأنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله وهذا من نواقض التوحيد ثم جاء تصوف العارفين وهو ظلمات بعضها فوق بعض لأنه تصوف الحلول والإتحاد ووحدة الوجود والفلسفات المظلمة والمذاهب الشنيعة، فلا نبغي بالسنة بديلا ولا نترك منهاج النبوة في التربية والسلوك ولا نتدرع بالشيوخ العابدين فهذا أمر قد انقرض كما أن الفقه السليم الذي كان عليه أئمة الأمة وفقهاؤها العظام قد غطته رمال التعصب الكثيفة والمذهبية الشنيعة حتى أصبح الكلام عن الأئمة المهتدين والفقهاء المجتهدين بعيدا كل البعد عما صار عليه المتأخرون.

فمن كان صوفيا خرافيًّا أو مبغضا للحديث وأهله أو متمسكا بالأساطير والخزعبلات ويسجد لشيخه وهو يعتقد فيه أنه يعلم ما لا يعلمه إلا الله وأنه يقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله فنحن مخالفون لهؤلاء مخالفة جوهرية حتى يترك طرائق الرجال المبتدعة في السلوك وأن يَعَضُّوا بالنَّواجِذِ على الصراط المستقيم والنهج السليم الذي تركه النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهو نهج كالبيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك وكلكم يدخل الجنة إلا من أبى فمن أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ومحمد فَرْقٌ و فَرَّقَ بين الناس وهو اللَّبِنَةُ التي أكمل الله به الدين وختم به الرسالات وفضله على الخلائق كلها فهو أحَقُّ أن يُتَّبَعَ وهو أولى أن يُقْتَدَى به فمن سلك سبيله نجا ومن تمسك بطريقته أفلح والله الهادي الى سواء السبيل.

أما فيما يتعلق بأمور السياسة الشرعية وأساليب الدعوة فَنَرْفُضُ الحزبية لأنها مقيتة والحركية لأنها فتنة فهذه أمور جاءتنا من بلاد الغرب ومضامنها عَلْمَانِيَة ولنا في السياسة الشرعية الغَناء كل الغَناء في كتاب الله الكريم وسنة النبي الأمين ومن لم يجد ضالَّته في الشريعة ازداد عياذا بالله ضلالا مبينا، كما نعتبر المظاهرات والإضرابات ضربا من الفتن لأنها تشبه بالكفار وطريقة لإشعال نيران الفتن وقد جرّت على المسلمين الويلات كما أن التفجيرات وقتل الناس بغير حق ليست من أساليب الدعوة النبوية فهي نبتت عند الشيوعيين والماركسيين والتنظيمات اليسارية خلال عقود كثيرة من الزمان ولم تعرف في بلاد المسلمين حتى في مقاومة الاستعمار الصليبي الغاشم في الأزمنة المتأخرة، فالعنف والفتنة والفوضى والسرية التي ينهجها الحزبيون والحركيون كل هذا من الفساد العريض الذي لا علاقة له بالدعوة الى الله التي سلكها الأنبياء والمرسلون.

أما الديمقراطية فهي فلسفة يونانية لها جذور عقدية فهي تخالف القرآن الكريم من جميع الوجوه وهي مناقضة للتوحيد منافية لمنهج النبوة ومن ثم فهي كفر صراح بواح.

وأما آلية الديموقراطية والإجرائية المتعلقة بها فهي جزء لا يتجزأ من الأصل الذي هو الديموقراطية وبالتالي فهي من أبطل الباطل ومن أراد أن يؤصل لذلك تأصيلات من الكتاب والسنة فهو كذَّاب أَشِر.

فالإنتخابات ليست وسيلة شرعية وإنما هي من طرائق اليهود والنصارى وأساليب العولمة الحديثة التي فيها استعباد الشعوب وقهر الأمم، وكذلك التحالفات مع الأحزاب المنحرفة عن الصراط المستقيم، ومدح الفساق والمتبرجات الذي يمارسه الحزبيون والحركيون والآليون كل هذا يخالف هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم فلا نحتاج لهذا الباطل البيِّن والزيغ الصراح، فقد أغنانا الله بالشريعة المنزلة والأحكام الربانية فلا نبغي بها بديلا البتَّة.

فأما الحزبيون والحركيون وأصحاب الآلية الديموقراطية فبيني وبينهم من الخلاف في مجال الدعوة إلى الله كما بين السماء والأرض.

وإني وإن اخترت لنفسي الدعوة الى الله في المسجد وإلقاء المحاضرات وكتابة المقالات فهذا اختيار مني على سبيل المثال في الدعوة لا على سبيل الحصر فكل من سلك طريقا مشروعا ومنهجا سليما واجتنب البدع والأهواء والفتن ما ظهر منها وما بطن فمارس أسلوبا دعويا صحيحا فذلك جائز شرعا وقد يكون مستحبا وقد يكون واجبا، مع العلم أنني أعتبر الكثير من الأساليب الدعوية مبتدعة ومحرمة راجين من الله للجميع التوبة النصوح والتمسك بالحق والعض بالنواجد على الكتاب والسنة وأن نفر من الفتن كالفرار من المجذوم والأسد ومن إستعان بالله أعانه ومن استنصر بالله نصره وهو القريب المجيب.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول كلمة الحق والجهاد في سبيل الله الذي أمر الله به ورسوله إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع وتحققت الأسباب كل ذلك قائم إلى يوم القيامة بتوفيق الله ومعونته وتيسيره لعباده الصالحين، ومن أنكر هذا الحق البين في كتاب الله عز وجل فهو منافق معلوم النفاق، ومن اعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشغيبا والجهاد إرهابا ونُصْحَ المسلمين فتنة فهو أضل من بعير أهله، ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع العلم والقدرة وعدم وجود المانع الشرعي فقد خان الله ورسوله والمؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار، أما من رضي وتابع ووقف في وجه أهل الحق وداخل أهل الفساد فهو منهم ومن يتوله منكم فإنه منهم نسأل الله السلامة والعافية ونعوذ بالله من سوء الخاتمة.

أما ما يقع في العديد من بلاد المسلمين اليوم فقد أفتى في ذلك من يوثق بعلمه ودينه كالشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله وغيره من كبار علماء الأمة في هذا الزمان وجعلناهم حجة بيننا وبين الرب جل وعلا يوم العرض عليه وهو الرحمن الرحيم الجواد الكريم.

ولا علم لي بشيء من ذلك على وجه التَّفصيل لأن الإعلام الصهيوني العالمي يبث الأباطيل وينشر الأكاذيب ويبغي تشويه الإسلام والمسلمين لخدمة المشروع الصهيوني العالمي فلا يحل للمسلم الصادق أن يصدق الكذابين أو أن يثق في المجرمين.

ولا علاقة لي بأحد البتَّة لا داخل البلد ولا خارجه سواء من الرسميين أو غير الرسميين ولا صلة لي بأي حزب أو جمعية أو نقابة أو فصيل ولا صلة لي بالمؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية ولا بأي جهاز في النظام القائم لا من قريب ولا من بعيد “أنا ولد الجامع” ولله الحمد والمِنَّة ولا أتحمل أية مسؤولية في هذه الأمور إطلاقا.

كما أنني أبرأ إلى الله من سب علماء الإسلام أو التنقيص منهم أو ذكرهم بأقبح الأوصاف فهذا ليس من الأخلاق النبوية ولا هو من قواعد الجرح والتعديل ولا أدركنا عليه أحدا من أهل العلم المباركين في بلدنا هذا ولا في غيره من بلاد المسلمين، وإنما هي فتنة عمياء جنبنا الله ويلاتها، نعم من أخطأ يُنْصَح ومن أساء يعلم ومن كثر خطؤه يبين أمره ومن تجاوز الحد يفضح بين الناس بالحجة والبيان ولكل مقام مقال والحكمة وضع الشيء موضعه فلا نغلوا غلو أهل التجريح ولا نجفوا جفاء الحركيين والحزبيين.البقرة 143

وكل من نخالفه من الحزبيين أو الحركيين أو دعاة الآلية الديمقراطية أو غيرهم لا يجوز سبهم ولا لعنهم ولا تكفيرهم ولا القول عليهم بالافتراء والكذب وإنما الذي يجب هو نصحهم نصحا صادقا وتعليمهم العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم وتبليغ الحق اليهم بإتقان والحرص عليهم من غير التواء ولا هوى وينصحون النصح الشرعي لأنهم قد وقعوا في مخالفات شرعية كبيرة وضلالات شنيعة وهذا لا يبرر سبَّهُم ولا شتمهم ولا الكذب عليهم، وأما ما أًصاب الكثيرين منهم من ظلم وتقتيل وتشريد وفتنة فنبرأ إلى الله من هذه الجرائم المنكرة والظلم الشنيع فكونهم خالفوا في أمور عديدة لا يبيح ما حصل للكثيرين منهم من اعتداء قبيح وطغيان فظيع والحق أحق أن يتبع وإن الله سائل أهل البدع عن بدعهم وأهل الإجرام عن جرمهم.المائدة 8الأنعام 152النحل 125

والعدل قامت عليه السماوات والأرض أي إعطاء كل ذي حق حقه وأن يجرح العبد بقدر ما فيه من المخالفة وإذا ظلم العبد وإن كان مسيئا في أمور أخرى لا نرتضي هذا الظلم لأن الله حرم الظلم على نفسه وجعله بين خلقه محرما.

وفي الختام ندعوا المسلمين جميعا إلى إلتزام الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين والحرص على نصرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونشر التوحيد الخالص بين الناس بعيدا عن الشرك والخرافة والشعوذة وأن يسعى الجميع إلى العمل الجاد لإقامة شريعة رب العالمين وأن يجتنبوا الفتن ما ظهر منها وما بطن والجماعة خير من الفرقة والصلاح أنقى من الفساد والطاعة أسلم من الفتنة والنصيحة أنفع من الفضيحة والرفق أجمل من العنف وما خُيِّرَ النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.

وعلى العلماء والدعاة والوعاظ أن يكونوا صفا واحدا ضد العلمانية البغيضة واليسار المظلم بالحكمة والموعظة الحسنة إلا الذين ظلموا منهم فجزاء السيئة السيئة مثلها لا سيما وقد جاوز الظالمون المدى.

وعلى أهل العلم أن يصلحوا ذات بينهم ليكونوا قدوة للمسلمين، وإن قيام العلماء بالواجب خطوة في الدرب الصحيح للرجوع بالأمة إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.

وإن الجيل الفاتح الذي سيقيم شريعة رب العالمين ويخرج الأمة من أنفاق العولمة المظلمة هو جيل يشبه جيل الصحابة الكرام بل هو نسخة طِبْقَ هذا الأصل الرفيع والمعدن النفيس الذين مدحهم الله عز وجل في كتابه أي جيل الاعتقاد الصحيح الذي هو اعتقاد الصحابة والتابعين والعمل الصالح الذي عاشه الصحابة والتابعون والسلوك والتربية التي تمسك بها الصحابة والتابعون والجهاد الحق الذي مارسه الصحابة والتابعون فهذا الجيل الرباني هو القدوة العظمى والأسوة الكبرى لأجيال الفتح وتحكيم الشرع وتطهير البلاد وصلاح العباد، فمن سلك مسلك القوم ربح الدنيا والآخرة فهلموا أيها الصادقون واسعوا سعيا حثيثا أيها الربانيون فإنما هو صبر ساعة وينصر الله أولياءه الصالحين ويهزم أعداءه المجرمين فهو نعم المولى ونعم النصير.الممتحنة 5التوبة 100الفتح 29الحشر 8

وصلى الله و سلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ومن سلك مسلكه واقتفى أثره نسأل الله أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
حسبي الله ونعم الوكيل
وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد
إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
كتبه أبوعبد الرحمان عبد الحميد أبو النعيم غفر الله له ولوالديه والمسلمين ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر شوال عام سبع وثلاثين وأربعمئة وألف بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم الموافق 02 غشت2016م

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *