الرئيسية / مقالات / سلسلة السلفية / السلفية 12 : السلفية والمذهبية – الجزء 3

السلفية 12 : السلفية والمذهبية – الجزء 3

سادسا: المذهبية والتعصب المذهبي

لقد كان السلف الصالح يأخذون العلم عن النبي عليه الصلاة والسلام ويتفقهون بين يديه فتمسكوا بالكتاب الكريم والسنة النبوية الصحيحة وكان فقههم للكتاب والسنة فقها سليما لأنهم عاشوا التنزيل وفقهوا التأويل ورأوا أحوال النبي عليه الصلاة والسلام ونقلوا ذلك حيث لم يتسن ذلك لغيرهم لأنهم رأوا الأحوال رأي العين، أضف إلى ذلك أنهم عرب أقحاح أصحاب لغة فصيحة وبيان بليغ يدركون أسرار العلم ويفقهون مراميه ولا سيما وقد عاشوا في أنوار الخلافة على منهاج النبوة وأيام الراشدين مجتمعا قرآنيا نبويا فأصبح الفقه سجية عند السلف كما هي اللغة عندهم بالسليقة، وكان الاختلاف يسيرا معتبرا قائما على أدلة صحيحة وحجج قوية، لكن الذين جاؤوا بعدهم بدأ الخلاف يتسع بينهم فخرج الخوارج واعتزل المعتزلة ورفض الروافض وأرجأ المرجئة ثم ظهرت فرق من أهل الأهواء والبدع، وهذا من الخلاف المذموم والتفرق القبيح.

وفي ميدان الفقه اختلف الناس بعد الصحابة وزاد الأمر اتساعا جيلا بعد جيل، وكان الخلاف أحيانا معتبرا وكان أحيانا أخرى بعيدا عن الدليل ثم أصبح على خلاف الدليل ثم آل إلى إبطال الدليل، بل أصبحوا حربا ضروسا على الدليل، وهذا من عمى التعصب المذهبي.

فالمذهبية هي اختيار مذهب من المذاهب الفقهية بحيث تغدوا أصول المذهب وقواعد الأئمة وفتاوى الأشياخ هي المعتمدة عند أصحاب المذاهب، فلئن كان السلف الصالح يجعلون القرآن الكريم والسنة الصحيحة وفهم الصحابة الكرام أصلا أصيلا وركنا ركينا ترد إليه كل الجزئيات والمتشابهات لأن فقه السلف هو المحكم وكل ما سواه متشابه يجب أن يرد إلى أصول الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح وفقه الصحابة والتابعين ومن سلك مسلكهم بإحسان من الأئمة المهتدين والفقهاء المجتهدين، فللأسف الشديد تجعل المذهبية أصول المذاهب الفقهية وأقوال الرجال ولو كانت عارية عن الدليل الأمر المحكم ترد أحكام القرآن الكريم والسنة الصحيحة وفقه الصحابة التي هي أمر متشابه عندهم إلى المحكمات وهي أصول المذاهب الفقهية وقواعد أئمة هذه المذاهب، وأصبح قائلهم ينادي بأعلى صوته إذا ذكرت الأدلة الشرعية المعتبرة يقول ما كان هذا ليفوت الإمام وإذا فات الإمام ما كان ليفوت الأصحاب، بل بلغ الغلو ببعض العلماء أن قال لأن يدفن معي في تابوتي خنزير أحب إلي من أن يدفن معي مصنف ابن أبي شيبة وهو من المصنفات الحديثية المباركة وما قال ذلك إلا تعصبا للمذهب وهو تعصب مقيت تفضل فيه الخنازير على كتب العلم النافعة حتى يفصل أحدهم الأمر ويختم النزاع بقوله كل آية أو حديث خالف ما عليه الأصحاب فهو مؤول أو منسوخ وهذا هدم للشريعة وتقديم لأقوال الرجال عن الوحي المعصوم فكيف إذا خالفت الشريعة أصول المذهب أو قواعد الأشياخ كل ذلك مؤول أو منسوخ بل غلا البعض غلوا فاحشا فجعل الإمام كالنبي وأقواله كالوحي فلا يمكن عندهم رد أقوال أئمة المذاهب ولا الأصول المعتمدة عندهم ويتعسفون تعسفا شديدا ويتكلفون تكلفا ممقوتا انتصارا لأئمة مذاهبهم وتعصبا لأصول وقواعد أشياخهم، ويقول بعضهم كل ما هو منزل من السماء يوجد في المدونة أي مدونة الفقه المالكي، فأين هذا من اجتهاد الصحابة وتمسكهم بالكتاب والسنة وفقههم الدقيق وعلمهم الواسع، لا شك أن فقه السلف من مشكاة النبوة وأن زيغ أهل التعصب المذهبي من الهوى، وكم لهذا التعصب من أقوال شنيعة وأفعال قبيحة ومواقف مخزية تدل على أن المذهبية والتعصب المذهبي فتنة عمياء وفساد في الأرض.

إن اتخاذ إمام من الأئمة إماما لمذهب واستخراج أصول وقواعد من فتاواه وأن تصبح أقواله حاكمة على النص وأن ترد الأقوال المخالفة للمذهب وإن كانت أدلتها كالشمس بغيوم الأهواء وأن يجمد الناس على أقوال الرجال لا يجوز شرعا فضلا أن يكون من أوجب الواجبات بل هو تعصب مقيت وفتنة عمياء وفساد في الأرض، وإنه ليسعنا ما وسع سلف هذه الأمة وأئمتها الهداة المهتدين من الصحابة والتابعين والفقهاء المجتهدين من الأئمة الأربعة وغيرهم من أساطين المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين.

ثم ألزمت المذهبية الخلق بالتقليد وحرمت الاجتهاد وأغلقت بابه النافع عند توفر شروطه وانتفاء موانعه بل لو كان المرء يملك أهلية للاجتهاد يمنع من ذلك منعا ولو في الأمور الظاهرة البينة لا يحل عندهم أن يخرج المرء عن دائرة التقليد الأعمى وان من حاول شيئا من ذلك ولو في أمور يسيرة يوصف بأقبح الأوصاف وتسلط عليه كل السهام، لأنها منطقة محرمة لا يجوز ولوجها البتة وإنما قصارى ما يحلم به المرء أن ينقل كلام الأشياخ تقليدا ولا يحرر مسألة ولا يحقق بابا لأن أمر العلم قد فرغ منه عندهم ولم يبق إلا التقليد الأعمى.

والتقليد تعتريه الأحكام الخمسة فقد يكون واجبا وقد يكون مستحبا وقد يكون مباحا وقد يكون مكروها وقد يكون حراما أما دعاة المذهبية فيريدونه تقليدا أعمى ويجعلون مذهب العامي مذهب مفتيه وهي عبارة مجملة تحتمل حقا وباطلا بل جعلوا كل الناس في هذا الحكم ولو كانوا طلاب علم وباحثين ودارسين، بل والأطم من ذلك ولو كانوا علماء متمكنين وفقهاء راسخين.

ثم بعد ذلك ظهر التعصب المذهبي وهنا الفتنة الكبرى والفساد العريض فلم يكتف هؤلاء بالمذهبية وإنما تحولوا إلى التعصب المذهبي، فبعد أن كانوا يقولون مذهب العامي مذهب مفتيه أصبحوا يقولون مذهب العامي مذهب إمامه والفرق شاسع بين الأمرين ويدخل في ذلك الطلاب والمشايخ والعلماء ولو بلغوا رتبة الاجتهاد وهذا هو التقليد الأعمى وهو تقليد محرم أما التقليد الذي تتوفر فيه الشروط وتنتفي الموانع من غير مذهبية ولا تعصب مذهبي فتعتريه الأحكام الخمسة من وجوب أو استحباب أو إباحة، فالذي ننكره هو التقليد المطلق لا مطلق التقليد فعندما يقلد الرجل إمامه في مسألة صح الخبر بخلافها أو اعترى الخبر معارض شرعي من تخصيص أو تقييد أو نسخ أو مخالفة إجماع معتبر أو أنها واقعة عين لا عموم لها أو جاءت جوابا على سؤال أو دلت القرائن الشرعية على أنها خلاف الظاهر أو ما إلى ذلك فيأبى المرء أن يتبع السنة النبوية ويتسعف في تحريفها تعصبا لأقوال الرجال العارية عن الدليل مهما علا كعبهم فكل العلماء يستدل لهم بالحجة الشرعية والنبي عليه الصلاة والسلام وحده هو الذي يستدل به لأنه أصل وغيره فرع فيأبى أهل التعصب إلا الصد عن الهدي النبوي وهجر السنة المحمدية بل يفسرون القرآن الكريم ويشرحون الحديث النبوي الصحيح من خلال أصول مذاهبهم وقواعد أئمتهم، وقد تكون المسألة معروفة عند المذاهب الأخرى والحجة فيها واضحة والدليل صريح فيسلط المتعصب المذهبي لسانه على الأئمة وقلمه على تفنيد الحجج بالشبه الواهية والأقوال الباطلة ولا شك أن هذا التعصب مذموم أن يفعله العلماء وقبيح أن ينسب إلى شريعة رب العالمين، لأنه ليس من العلم في شيء ولا هكذا تكون أخلاق العلماء الربانيين.

وللأمانة يجب أن نشير إلى أن الأمة عبر تاريخها الطويل وحتى في أحلك الظروف وأزمنة الجمود كانت هناك صيحات صادقة من علماء محققين يأبون التعصب ويدعون إلى العمل بالدليل وفي كل مذهب من المذاهب الأربعة ظهر أئمة مباركون صنفوا في العمل بالدليل وردوا بعض أقوال مذاهبهم لأنها تخالف الحجة وحققوا الكتب المفيدة في مذاهبهم بأدلة السنة كالزيلعي (تـ593هـ) في نصب الراية وهو حنفي المذهب، والحافظ ابن حجر (تـ852هـ) في كتاب تلخيص الحبير للرافعي وهو شافعي المذهب، وابن عبد البر المالكي (تـ463هـ) في التمهيد والاستذكار وجمع من الحنابلة في الدعوة إلى التزام السنة والعمل بالدليل والتحرر من التعصب المذهبي المقيت.

سابعا: هل يجوز للمرء أن يتمذهب بمذهب من المذاهب الأربعة

لم يكن التزام مذهب معين زمن السلف الصالح لكن وقعت أحداث وجدت نوازل واختلف الناس وأصبحت المذهبية واقعا والواقع لا يرتفع، فالمذهبية شيء والتعصب المذهبي شيء آخر، فإن العالم يعيش في بيئة علمية يسود فيها مذهب من المذاهب الأربعة أو غيرها من مذاهب أهل السنة والجماعة في الفقه، فيتعلم العالم في أول أمره على أصول مذهب معين، فنحن في ديار ساد فيها المذهب المالكي منذ قرون عديدة فلأن يحفظ الطلاب بعض المنظومات وينشؤوا على أصول المذهب المالكي وأن تتكون عند الطلاب الملكة الفقهية بسبب طرائق العلماء في البحث وأساليبهم في الاستنباط وأن يحيط الطلاب بمباحث الفقه من الطهارة إلى أبواب المواريث فهذا الأمر مباح لا جدال فيه وقد يكون مستحبا في بعض الأحوال وقد يجب في أحوال أخر حسب الزمان والمكان والأشخاص، وقد انتسب العديد من المحققين من العلماء المالكية وغيرهم إلى المذاهب الفقهية انتساب انتماء لا انتساب تعصب، ويجب على العلماء الذين يدرسون الطلاب الفقه المالكي أو غيره أن يعلموهم منذ نعومة أظافرهم العمل بالدليل وإتقان الترجيح واجتناب التقليد والغوص في المعاني والبحث عن الحقائق. فالانتساب إلى المذهب لمن يحقق المسائل ويرجح بالدليل ويعمل بالحجة ويرفض التقليد هذا أمر لا عيب فيه ولا ضرر، وإنما العيب أن يكون العالم متعصبا لمذهب من المذاهب الفقهية يدور مع المذهب حيث دار ويقول نحن خليليون لا نبغي بخليل بديلا ويلوون أعناق النصوص ليَّا لتوافق أقوال الأشياخ وأصول المذاهب ويضعفون كل رواية صحيحة ولو رواها أصحاب الكتب الستة إذا خالفت مذاهبهم، ويصححون الموضوع والمكذوب إذا وافق ما عليه أئمة مذاهبهم، وكل مذهب خالف مذهبهم يتنقصنوه ويعتبرون مذهبهم هو المذهب الوحيد الذي وافق الصواب وكل المذاهب لا تساوي في العلم شيئا ولا أصحابها يفقهون أمرا، وهذا تقليد أعمى منعهم من إبصار الأنوار وإدراك الأسرار ففي كل مذهب من المذاهب وخاصة عند متقدميهم علوم غزيرة وفقه رشيد وإدراك عميق وتفسير سديد لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

فالمذهبية موضوع والتعصب المذهبي موضوع آخر، فالذين يجمدون على مذهب واحد كأنه وحي منزل ويلتزمون إماما واحدا كأنه نبي مرسل وينظرون إلى العلماء الأجلاء في المذاهب الأخرى على أنهم ليسوا في العير ولا في النفير، أما قول متعصبة المذاهب في أئمة الحديث وأصحاب الأسانيد وأهل الرواية فقول شنيع وكلام قبيح فهم عندهم لا علاقة لهم بالفقه ولا بالفهم وأنهم جهلة أميون يروون ما لا يفهمون ويبلغون ما لا يفقهون، ولا تعتبر فتاواهم ولا يلتفت إلى تراجمهم، وهذه شهادة جور وقول زور ولا ذنب عند أهل الحديث إلا أنهم يدورون مع السنة حيث دارت ويستدلون في أمور الدين بالصحيح من الروايات وليس عندهم إمام أعظم إلا النبي محمدّا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فيأتي أهل الحديث وأصحاب الرواية متبعين لإمامهم الأعظم وهو النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكل محقق من أهل العلم ومدقق من أصحاب الاجتهاد إنما نال هذه الدرجة العظيمة بتمسكه بالحديث والتزامه، بالسنة وكلما علم المرء علم السنة والتزم الحديث كلما كان فقهه أدق وعلمه أعمق وتجرد من التقليد والتزم العمل بالدليل، ولهذا كانت حرب متعصبة المذاهب على أهل الحديث حربا شعواء.

ونحن لا ننكر أن في بعض أهل الحديث من كان عديم الفقه أو لحانا في العربية، وبعضهم كان أميا، وهذا حصل لكل العلماء في كل الفنون فكم من مقرئ ضعيف في الحديث وكم من فقيه لا علم له بأصول التوحيد ولا بعلوم القراآت وبعضهم لا صلة له بالحديث من قريب لا من بعيد، بل في كل فن من فنون العلم من تجده وبالا على ذلك الفن. فلو اتخذت هذه المسائل قاعدة لرُدَّت كل العلوم وأبطلت كل الصنائع ولاختلط الحابل بالنابل، وكل ما آل إلى باطل فهو باطل، أما عموم أئمة المحدثين فهم فقهاء نحارير وعلماء بالعربية ودارسون للقراآت ومتخصصون في التاريخ ولهم معارف واسعة وعلوم كثيرة وهم المرجع في باب التوحيد والصفات ومعرفة الباري بحجة بالغة وآيات بينات.

فليس العيب في الانتساب إلى مذهب معين انتساب انتماء، فما من عالم بعد قرون الخير إلا وانتسب إلى مذهب من المذاهب الأربعة لكنهم إذا بلغ الرجل منهم أشده واستوى تمسك بالدليل ونافح عن الحجة ودار مع الدليل حيث دار وأبطل التقليد ودعا إلى سلوك سبيل السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن سلك مسلكهم من الأئمة الهداة المهتدين، وبيَّن أن إمام مذهبه كان صاحب دليل وكان معظما للسنة ولو بلغته لعمل بها والتزمها ولا يبغي بها بديلا بخلاف علماء السوء من متعصبة المذاهب الذين يتقززون من كتب السنة ومصنفات الحديث.

المائدة 104فمن التواآت متعصبة المذاهب أنهم يقولون إن علماء السنة كانوا متمذهبين وأنهم انتسبوا إلى مذاهبهم، ومن عادة هؤلاء المفترين أنهم يجعلون الأمر الجزئي كليا، والبسيط مركبا، والاستثناء أصلا، وهذا قلب للحقائق وإفساد للأمور وهي أمور معلومة بداهة ولكن المنافقين لا يفقهون.

ثامنا: أصناف العلماء والتعصب المذهبي

بعد عصر الصحابة والتابعين ظهر الأئمة المهتدون والفقهاء المجتهدون وهم الأئمة الأربعة وغيرهم من الفقهاء النحارير والعلماء المحققين فهؤلاء لم يكونوا أهل تعصب مذهبي ولا دعاة اختلاف مذموم ولا فرقة قبيحة، فمثلا الإمام مالك إمام الأئمة وفقيه الملة كان من عقلاء الرجال ومن الحكماء الأفذاذ بل كان يمنع المذهبية والاختلاف، فلما دعاه المنصور إلى أن يجمع الناس على الموطأ قال يا أمير المؤمنين لقد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمصار وكل نقل معه علما فلا تلزم الناس بشيء ودع الناس وما يختارون، وهذا قمة الانصاف وقبة العظمة رضي الله عنه وعن جميع الأئمة المجتهدين لهم أقوال كثيرة في ذم التعصب والتنفير من التفرق، وبعد هؤلاء العمالقة يوجد في كل مذهب من المذاهب الفقهية من يخالف إمامه في مسائل عديدة ودلائل كثيرة بل وينازعونهم في أصول المذهب وقواعد الإمام، وقد لقي هؤلاء العلماء المحققون وهم كثيرون وفي كل المذاهب محنا عديدة من قبل ولاة الأمور الذين كانوا يتعصبون لهذا المذهب الذي يخالفه المحققون أو ينتسبون إلى غيره من المذاهب وكانوا غالبا ما يحرضون من قبل صناديد التعصب المذهبي، وولاة الأمور كان غالبهم يتمسك بمذهب من المذاهب الفقهية تدينا وبعضهم يستغل الاختلافات المذهبية لمآرب شخصية أو مصالح دنيوية، وبالمناسبة فالخليفة المتوكل العباسي التزم السنة اعتقادا صحيحا ومحبة في الحق وأكرم الإمام أحمد وعلماء السنة تعظيما للحق فلا داعي للتفسيرات الاستشراقية ولا التحليلات العلمانية ودعوى أنه منع الإمام أحمد هي سراب بقيعة (هذا الكلام ذكره الشيخ الفوزان في شرحه رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، ولو حصل شيء من ذلك فقد فتح الباب لآلاف المحدثين وجمهرة من أئمة السنة المعتمدين الذي نشروا الحق في كل بلاد الإسلام، وصنف من العلماء اختار أن يصمت متحسرا لم يستطع البوح بالحق خوفا على نفسه من السلاطين الذي يحرضهم علماء الفتنة من متعصبة المذاهب أو الذين يستغلون الخلاف بين المذاهب لتحقيق مبتغياتهم من سلاطين الجور وأمثالهم، وربما خافوا على أنفسهم من العوام الذين كانوا يهاجمون العلماء المحققين كما هجموا على الخطيب البغدادي لأنه قال إن الإمام أحمد ابن حنبل محدث وليس فقيها، فهاجم العوام من حنابلة بغداد بيته وأحاطوا به وطينوا بيته، وسواء أصاب الخطيب في ذلك أو أخطأ فهي مسألة علمية يرد عليها بالحجة والبرهان لا بهذه الطرائق والأساليب، وإن كنا نحن نحسب الإمام أحمد ابن حنبل من عظماء فقهاء هذه الأمة المباركة، وكذلك فعل العوام بأبي الوليد الباجي (تـ474هـ) لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم في آخر عمره القراءة والكتابة مستندا إلى قصة الحديبية وأنه مسح اسمه الكريم فغضب عليه العوام بتحريض من متعصبة المذاهب وهذا رأي له وإن كنا لا نوافقه عليه إلا أن هذه الأساليب أسكتت العديد من العلماء المحققين خوفا على أنفسهم من الفتنة، وهاجم العوام بيت ابن العربي المعافري (تـ543هـ) وغيرهم من العلماء، وكان الكثير من طلاب العلم إذا وجدوا في العالم تحقيقا أو نقدا بناء للمذهب هجروه وأطلقوا عليه الألسنة الحداد ناهيك عما يفعله علماء التعصب المذهبي بأهل التحقيق والنقد والدراسة والبحث العلمي.

لقد لقي هؤلاء العلماء المحققون فتنا عظيمة وبلاء مبينا إلا أن كتبهم العظيمة ودراساتهم القيمة لا زالت حية لأن الحق لا يبيد والنور لا ينطفئ بيد أن أهل التعصب المقيت ذهبوا أدراج الرياح فلا يذكروا إلا على سبيل التنقيص، والجدير بالذكر أن هناك نماذج عديدة لهؤلاء المحققين في جميع المذاهب الفقهية عبر التاريخ، وهؤلاء يمدحون مدحا عظيما وليسوا المقصودين في الكلام عن الخلاف بين السلفية والتعصب المذهبي بل هم حجة لنا فيما نذكره عن التعصب المذهبي وعن تسييس المذاهب الفقهية بما يخرج عن المقصود الشرعي والأهداف العلمية.

إذا فليس الخلاف بين السلفية والأئمة المهتدين ولا بين أصحاب الحديث وعلماء التحقيق، بل تكامل كامل بين السلفية والأئمة والمحدثين والمحققين، وإنما الخلاف مع أصحاب التعصب المذهبي والتقليد الأعمى والمحاربين للأدلة الساطعة، والخلاف أشد وأكبر مع من يريدون تسييس المذهب والتمذهب السياسي فهؤلاء أشد وأشنع.

وهذا ما حذا  بأهل الحديث وفقهاء الأثر الذي يعظمون الدليل الشرعي ويذمون التعصب لأقوال الرجال العارية عن الدليل بالطعن في المذهبية والتعصب المذهبي فهذا هو مرادهم أي الجوانب السلبية والفتنة العظيمة والفساد العريض والصد عن سبيل الله ورسوله مع أنهم يقرون في أن هذه المذاهب الفقهية ثروة عظيمة وعلم غزير وملكات رائدة من قبل المحققين في كل المذاهب الفقهية الذين لم يعمهم التقليد عن الاحتجاج بالدليل ولم يخفهم الضغط الشديد من أن يقولوا كلمة الحق رغم ما حصل لهم من الأذى الشديد، ولو أتيح لهم ولغيرهم من المستنيرين بالسنة والمستضئين بفقه السلف تطهير هذا التراث العظيم من التعصب المقيت والتقليد الأعمى والطعن بغير حق في المخالف ومسايرة الهوى في التصحيح والتضعيف والالتواء في الفتوى لتوافق المذهب الفقهي وما إلى ذلك من السلبيات التي أثرت في هذه الثروة الفقهية فكادت أن تغيب شمسها المضيئة وتظلم أنوارها الساطعة، لكان النفع عظيما والعلم نافعا والمنافسة مباركة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

بل لقد بلغ الأمر بالتعصب المذهبي إلى أن لعن أقوام أقواما، وأبطل بعضهم الصلاة وراء بعض، وهذا خلاف ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين، بل لم يقل بشيء من ذلك أحد من الأئمة المهتدين من الأئمة الأربعة وغيرهم، بل منع الحنفية زواج الحنفي من الشافعية لأنها تشك في إيمانها وأنزلها بعضهم منزلة الكتابية بل قامت حروب بين الأحناف والشافعية وهذا كله من الباطل لأنه تفرق بغير حق وتشيع للباطل.الروم 31-32آل عمران 105.

لأن هذا من الاختلاف المحرم لا من الاختلاف المعتبر ويؤدي إلى التفرق والتشيع والتباغض والتحزب، أما الاختلاف المعتبر فهذا خلق الخلق من أجله لحكمة يعلمها الباري عز وجل.هود 118-119 2

فالاحتجاج بأن الاختلاف سنة كونية وأنه رحمة بالأمة هذا إذا كان اختلافا معتبرا أما الاختلاف كما عليه متعصبة المذاهب وغلاة الصوفية وأهل التنطع من المتكلمين فضلا عن الفرق الخارجة عن جماعة المسلمين من أهل السنة والجماعة فهذا اختلاف باطل وهو من البغي الذي حرمه الله ورسوله.الجاثية 17

وصلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و آله و صحبه و من سلك مسلكه و اقتفى أثره نسأل الله أن يجعلنا منهم بمنه و كرمه و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم

حسبي الله نعم الوكيل و أفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد

إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب

كتبه أبو عبد الرحمان عبد الحميد أبو النعيم غفر الله له ولوالديه والمسلمين ليلة التاسع من ذي القعدة عام سبع وثلاثين وأربع مئة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم الموافق 12 غشت 2016م

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *