الرئيسية / مقالات / معرفة الفضل لأهل الفضل‬

معرفة الفضل لأهل الفضل‬

قرأت في كتاب نفيس لأحد مشايخنا الأبرار وأساتذتنا الأخيار وهو شيخنا العلامة فقيه الأمة الأستاذ الدكتور القاضي برهون شافاه الله وعافاه وبارك لنا فيه وقد تعلمت من هذا الشيخ الفاضل السَّمت والهدي ووجدت عنده هيبة ووقارا فإني رغم طول الصحبة لم أسمع منه قط كلمة ساقطة أو عبارة نابية بل ولا نكتة نادرة وكنا إذا ضحكنا بين يديه مرة غطى وجهه وابتسم بل إني لا أبالغ إن وصفت حياءه كالعذراء وهذا من الأخلاق الرفيعة وقد وصف سيد الأولين والآخرين بهذا الوصف العظيم، كما استفدت منه في التوحيد والسنة علما غزيرا حفظه الله وبارك لنا فيه ونفع به أجيال المسلمين وقد آزرنا مؤازرة شديدة في كل معاركنا الفكرية وحروبنا العلمية وصراعنا الحضاري مع العلمانيين والحداثيين واليسار الدَّمويّ فجزاه الله عنا أعظم الجزاء فهو من العلماء الربانيين الذين توفرت فيهم أوصاف علماء السلف الصالح، وإننا نحبه في الله حبا شديدا ومودة ربانية نسأل الله أن ينفعنا بها جميعا يوم العرض عليه إنه جواد كريم، فقد ألف كتابا عظيما فيه نفائس نادرة، وعنوان الكتاب “حكم إصرار العصاة على كبائر الذنوب” وهو في نحو أربع مئة وخمسين صفحة ويزيد والكتاب لم يطبع بعد، وهو من كتب الشيخ الرائعة فقد ملأه بالنصوص وأقوال العلماء واختيارات المذاهب مع دراسة دقيقة لم يسبق إليها حفظه الله، وانتصر لمذهب السلف الصالح بعيدا عن غلو الخوارج والمعتزلة وجفاء المرجئة والجهمية وهو من نوادر الكتب النافعة، وكتب الشيخ فيها العلم والفقه والفهم وما كتاب الردة عن كل ذلك ببعيد، فاخترت من هذا الكتاب نقولا لأئمة الدين أردت أن ينفعنا الله بها جميعا فهي درر نفيسة ولآلىء نادرة فحفظ الله الشيخ المبارك ورفع درجاته في الجنة ونفعه الله ونفع به في الدنيا والآخرة وبارك الله لنا في عمره:

-قال ابن القيم رحمه الله : “وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع ودينه يترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟
وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله، بذل وتبذل، وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاث حسب وسعه. وهؤلاء -مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم- قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل”.

-قال شيخ الإسلام ابن تيمية : “ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يتعرض به المرء للفتنة، صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأن يطلب السلامة من الفتنة، كما قال تعالى عن المنافقين:التوبة 49

ثم قال: إن نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد فتنة عظيمة قد سقط فيها، فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟
ثم قال: فمن ترك القتال الذي أمر الله به، لئلا تكون فتنة، فهو في الفتنة ساقط لما وقع فيه من ريب قلبه، ومرض فؤاده، وترك ما أمر الله به من الجهاد”.

– قال ابن رجب رحمه الله : “وهذا دليل على جهاد الأمراء باليد … وقد نص على ذلك أحمد أيضا في رواية صالح، فقال: التغيير باليد أن يزيل بيده ما فعله من المنكرات، مثل أن يريق خمورهم، أو يكسر آلات الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك، وكل هذا جائز، وليس هو من باب قتالهم، ولا من الخروج عليهم الذي ورد النهي عنه، فإن هذا أكثر ما يخشى منه أن يقتل الآمر وحده”.

– قال الإمام النووي رحمه الله : “وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يعتد بخلافهم”.

– قال ابن النحاس رحمه الله : ” يشترط لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاثة شروط : الإسلام والتكليف والاستطاعة واختلف في العدالة والإذن من الإمام”.

– قال الغزالي رحمه الله : “واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، بل كل من أمر بالمعروف، فإن كان الوالي راضيا فذاك، وإن كان ساخطا له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه، فكيف يحتاجإالى إذنه في الإنكار عليه” وبعد كلام له في عدم وجوب استئذان الإمام في التغيير قال : “وكذلك كسر الملاهي وإراقة الخمور فإنه تعاطى ما يعرف كونه حقا من غير اجتهاد، فلم يفتقر إلى الإمام، وأما جمع الأعوام، وشهر الأسلحة في ذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر سيأتي”.

– وقال ابن دقيق العيد رحمه الله : “ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولاية، بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين”.

– وقال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله : “لم يدفع أحد من العلماء الأمة وفقهائها -سلفهم وخلفهم- وجوب ذلك إلى قوم من الحشو وجهال أصحاب الحديث، فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح، وسموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى السلاح، وقتال الفئة الباغية مع ما قد سمعوا فيه من قول الله عز وجل: الحجرات 9

وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالهم بالسيف وغيره، وزعموا مع ذلك أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح، فصاروا شرا على الأمة من أعدائها المخالفين لها لأنهم أقعدوا الناس عن قتال الفئة الباغية وعن الإنكار عن السلطان الظلم والجور حتى أدى ذلك إلى تغلب الفجار، بل المجوس وأعداء الإسلام حتى ذهبت، وشاع الظلم وخربت البلاد وذهب الدين والدنيا وظهرت الزندقة والغلو ومذاهب الثنوية والخُرَّمية والمَزْدَكيَّة والذي جلب ذلك عليه ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإنكار على السلطان الجائر”.

– ونقل النووي عن إمام الحرمين قوله : “قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين، قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية”.

– وقال ابن القيم عن حديثه عن الأنصاب : “وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه وتعالى كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين”.

– وقال ابن كثير: “وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش ففرح الناس بذلك”.

– أقوال أهل الظاهر: قال الإمام ابن حزم الأندلسي رحمه الله : “مسألة : والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم إن قدر بيده فبيده وإن لم يقدر بيده فبلسانه وإن لم يقدر بلسانه فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان، فإن لم يفعل فلا إيمان له. ومن خاف القتل أو الضرب أو ذهاب المال فهو عذر يبيحه أن يغير بقلبه فقط، ويسكت عن الأمر بالمعروف وعن النهي عن المنكر فقط”.

– وقال الإمام الشوكاني : “كل مسلم يجب عليه إذا رأى منكرا أن يغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهور كون الشيء منكرا يحصل بكونه مخالفا لكتاب الله سبحانه أو لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو لإجماع المسلمين. ثم إذا كان قادرا على تغييره بيده كان ذلك فرضا عليه ولو بالمقاتلة، وهو إن قتل فهو شهيد وإن قتل فاعل المنكر فهو بالحق والشرع قتله، ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين فإن لم يؤثر ذلك جاء بالقول الخشن فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد ثم المقاتلة إن لم يكن التغيير إلا بها. فإذا كان غير قادر على الإنكار باليد أنكر باللسان فقط ذلك فرض، فإن لم يستطع الإنكار باللسان أنكر بالقلب وهذا يقدر عليه كل أحد وهو أضعف الإيمان، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم”.

– قال القرطبي رحمه الله : “فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أم القتل فليفعل، فإن زال المنكر بدون القتل لم يجز القتل، وهذا (أي الحكم) تلقي من قوله سبحانه وتعالى:الحجرات 9

 

  – وقال ابن العربي : “وإنما يبدأ باللسان والبيان فإن لم يكن فالبيد”.

– وقال السيوطي رحمه الله : “ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يختص بأرباب الولايات ولا بالعدل ولا بالحر ولا بالبالغ، ولا يسقط بظن أنه لا يفيد وأعلم ذلك عادة ما لم يخف على نفسه أو ماله أو على غيره مفسدة أعظم من ضرر المنكر الواقع”.

– وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “وأما إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية ولم يبق له غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم عليهم ولا يرد عليه السلام إذا كان الفاعل لذلك متمكنا من ذلك من غير مفسدة راجحة”.

– قال ابن عبد البر رحمه الله : “وأجمع المسلمون على أن تغيير المنكر واجب على من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه، ليس عليه أكثر من ذلك وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك.”

– قال أبو بكر الجصاص رحمه الله : “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالان : حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته، ففرض على ما أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله، وإزالته باليد تكون على وجوه منها: ألا يمكن إزالته إلا بالسيف، وأن يأتي على نفس فاعل المنكر فعليه أن يفعل ذلك كمن رأى رجلا قصده أو قصد غيره بقتله أو بأخذ ماله أو قصد الزنا بامرأة .. وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح فعليه أن يواجهه بكل قوة لرد عدوانه عنه أو عن غيره لقوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده”“.

– قال إمام الحرمين رحمه الله : “مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح وذلك جائز للآحاد بشرط الضرورة، والإقتصار على قدر الحاجة في الدفع فإذا اندفع المنكر فينبغي أن يكف”.آل عمران 104

وقد مر قول ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير الآية : “المقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجب على كل فرد من الأمة بحسبه”.آل عمران 110

– قال أبو بكر الجصاص رحمه الله بعد أن ذكر طائفة من الآيات في هذا الصدد : “فهذه الآية ونظائرها مقتضية لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي على منازل أولها تغييره باليد إذا أمكن فإذا لم يمكن وكان في نفسه خائفا على نفسه إذا أنكر بيده فعليه إنكاره بلسانه فإذا تعذر ذلك لما وصفنا فعليه إنكاره بقلبه”.

 

لقد اخترت هذه النقول وبقي في الكتاب الشيء الكثير ولم أعلق على شيء من ذلك ولم أذكر تفسيرات الشيخ وتعليقاته، لأن الغرض أن يعلم الطلاب والباحثون أن كثيرا من الأقوال لها في الباب سلف عظيم وأدلة قوية وأن يقارن الباحث بين الأدلة والحجج وأن لا تنغلق الأذهان عن أقوال إن لم تكن هي الراجحة فتدخل في باب الاختلاف المعتبر أو ما إلى ذلك وحتى يعلم طلابنا أن مشايخنا علماء كبار وفقهاء نحارير وأئمة بلغوا درجات الاجتهاد وفق الله الجميع توفيقا وسدد الأمة تسديدا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله الأطهار وصحبه الاخيار.

أخوكم المحب عبد الحميد أبو النعيم غفر الله له ولوالديه والمسلمين.

ليلة السابع من ذي القعدة عام سبع وثلاثين وأربع مئة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم الموافق 11 غشت 2016م

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *