الرئيسية / مقالات / سلسلة السلفية وأصحاب الحديث وابن تيمية والوهابية / السلفية وأصحاب الحديث وابن تيمية والوهابية 02

السلفية وأصحاب الحديث وابن تيمية والوهابية 02

انطلاقا من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فاطر 28المجادلة 11الزمر 9

لقد سبق بيان أن السلفية هي التزام الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح وهم الصحابة والتابعون والأئمة الهداة المهتدون والفقهاء الربانيون المجتهدون، وأن أصحاب الحديث وأئمة الآثار هم من وَرِثَ علم الصحابة والتابعين وفِقهَهم وفَهمَهم والتزموا ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام لا يحيدون على ذلك قيد أنمُلة.

فالسلفيون هم أصحاب الحديث وهؤلاء يناقضون مناقضة تامة البدع والأهواء سواء البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة كالروافض والخوارج والقدرية والمرجئة، أو ما إلى ذلك من أصناف الضلالات والفتن كالقبورية وغلاة المتصوفة والمتكلمين ومتعصبة المذاهب وأصحاب السياسات المخالفة للسياسة الشرعية وكل الأفكار الدخيلة المتأثرة بالعلمانية والحداثة واللبرالية والعولمة ولو حاولوا تأصيلها تأصيلا شرعيا، كل هذا من الباطل الصراح وبعضه أقبح من بعض والسلفية بريئة كل البراءة من هذه الظلمات كما أن أصحاب الحديث هم الورثة الصادقون للسلفية الربانية التي هي منهاج الصحابة والتابعين. وكل محاولة لتقمص هذه الشخصية من قبل أهل البدع والأهواء محاولات يائسة تكذبها الأدلة والبراهين والوقائع والحقائق، كما أن الجهود التي يقوم بها المنافقون والمرجفون والذين في قلوبهم مرض لتشويه السلفية ووصف أهلها المخلصين بأنهم تكفيريون إرهابيون أهل فتنة أصحاب مذهب خامس كلها جهود ستتبخر في الفضاء لأنها كلمة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار أليس الصبح بقريب.

ومن التواءات هؤلاء المتلاعبين الذين لا للعلم وقَّروا ولا لمناهج البحث التزموا ولا بالأمانة عُرِفوا ولا للشرع نصروا بل للطاغوت العالمي مكنوا ويسروا وأعانوا، من التواءات هؤلاء أنهم يطعنون في ابن تيمية رحمه الله ومحمد ابن عبد الوهاب رحمه الله ويهدفون من ذلك إلى عمل شيطاني خبيث وهو اتخاذ هؤلاء الأئمة ذريعة في الطعن في السلفية الحق وفي طريقة أهل الحديث المرضية، ولم يكتفوا بهذا الخبث أن جعلوا هؤلاء الأئمة هم السبب في الإرهاب والتَّنَطُّع والفرقة والفساد في الأرض وغرضهم من ذلك أن ينصرف المسلمون عن الدين الحق وأن يعكفوا على الأضرحة والمشاهد وأن يصبحوا طرقيين يعبدون الأحياء بعد الأموات وأن تذوب عقيدة التوحيد في ضلالات المتكلمين والفلاسفة وأن يتعصب الناس لأقوال المتأخرين العارية عن الأدلة بل المخالفة للأدلة وكل هذا يؤدي إلى إنشاء جيل يعتبر الجهاد إرهابا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشغيبا والولاء والبراء تطرفا والحلال والحرام تشددا وأن تتعانق الأديان والشرائع وتتوحد الكتب والمصاحف وأن يعيش المسلمون أذلة مهانين مغلوبين مقهورين لا يستطيعون صرفا ولا نصرا، وهذه كلها مكائد خبيثة وخطة شيطانية وتزوير فظيع وفتنة كبرى.

نحن بفضل الله مع الحق المبين الذي أنزله الله على نبيه الكريم وعَلَّمَه صحبه الكرام تعليما بيِّناً ونقلوه إلى أئمة التابعين نقلا أمينا رواية ودراية ورعاية وحفظوه في صدورهم وكتبوه في مصنفاتهم وأجاز الأول الآخر تزكية وشهد الكبار لمن جاؤوا بعدهم شهادة بالأمانة واعترافا بالميراث النبوي فكانوا سلسلة ذهبية لأن العلماء ورثة الأنبياء فكل ما كان العالم ملتزما التزاما دقيقا كلما كان ميراثه صافيا وأداؤه أمينا، فنحن لا نتعصب للرجال مهما علا كعبهم وندور مع الدليل حيث دار وتُعرض أقوال الرجال على الكتاب والسنة لا كما يفعل أهل البدع بعرض الكتاب والسنة على أقوال الرجال ويَلوُون النصوص لتوافق الأشياخ والمذهب والاختيار، فقد ظهر الموضوع وانتهى فيما يتعلق بالتعريف بالسلفية وأصحاب الحديث وأنهم على منهاج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم برآء من البدع وأهلها، لكن سنتعرض للكلام عن ابن تيمية وابن عبد الوهاب رحمة الله عليهما لأنهما ليسا شخصين اتُّهِما في عرضهما ودينهما فقط وإن كان هذا يقتضي من المسلم أن يذب عن عرض أخيه المسلم لكن القضية أكبر وأعظم إنها خطة لضرب السلفية والطعن في أصحاب الحديث وتزوير التاريخ وتحريف الحقائق وقلب المعاني والسقوط في مخططات العدو، فالدفاع هنا دفاع عن الحق لأن ابن تيمية رجل كالرجال يُؤخذ من قوله ويُرَد مهما علا كعبه ولا يضره وغيره من أهل العلم أن تفوته المسألة والمسألتان وأن يخطئ في القضية والقضيتين وكذا الأمر مع ابن عبد الوهاب رحمة الله عليهما، ولا نربط الحق بهما ولا نوقف المنهج عندهما وإن كنا نشهد أنهم على طريقة السلف وهم أصحاب حديث بل هم أئمة في هذا الشأن وقد جعل الله لكل شيء قدرا.

أما ابن تيمية رحمه الله فقد سلك مسلك السلف الصالح مسلكا كاملا والتزم طريقة المحدثين التزاما دقيقا، فكل من درس كتب ابن تيمية يجد أنه الإمام أحمد الصغير، ولما أقام علماء المذاهب محاكمة لابن تيمية بحضور ولاة أمورهم يومئذ كما هي مفصلة في كتبه ورسائل تلامذته وقد كان سُجِنَ من أجل عقيدته مرارا ثم خَلُص هذا المجلس الذي كان يضم كبار خصوم ابن تيمية رحمه الله إلى أن عقيدته هي عقيدة الإمام أحمد ابن حنبل وحيث أنه أحد الأئمة الأربعة، فعقيدة ابن تيمية عقيدة صحيحة وأُفرِج عنه وكان يُدرِّس عقيدته في مصر وفي الشام ولم يمنعه أحد، إذا فمن أراد أن يعيب عقيدة ابن تيمية فليطعن في عقيدة الإمام أحمد ابن حنبل وفي أصحاب الحديث وفي السلف من الصحابة والتابعين، وقد كان المخالفون يطعنون في ابن تيمية وفي أصحاب الحديث ويُحرفون مذهب السلف ويجعلون مذهب الخلف أعلم وأحكم بخلاف المنافقين اليوم الذين يريدون أن يصفوا ابن تيمية بأنه ليس سلفيا ولا حنبليا ولا على طريقة المحدثين وإنما هو مبتدع كبير جاء بما لم تأت به الأوائل لأنهم علموا أن الناس يحبون السلف الصالح ويُعظمونهم، كما أن طلاب العلم والباحثين يعلمون قدر أصحاب الحديث وعلو درجتهم وأنهم على قدر دقتهم في باب الصناعة الحديثية على قدر علمهم بالسنة وبمعرفتهم بعقائد السلف الصالحين، فأراد المنافقون كذبا وزورا ومخالفة لأشياخهم ومعاندة لمن سبقهم أي أرادوا إدماج الحق بالباطل ومزج النور بالظلمات، ولقد قال ابن تيمية في ذلك المجلس ها هو كتاب العقيدة الواسطية وإني أعطيكم ثلاث سنوات على أن تأتوني بحرف واحد يخالف مذهب السلف الصالح وأنَّى للأشاعرة والماتريدية وغيرهم من المتكلمين أن يأتوا بما يخالف مذهب السلف الصالح من كتاب العقيدة الواسطية، ونقول للمنافقين والكذابين والأفاكين خذوا ما شئتم من السنين واتونا بحرف واحد من الواسطية يخالف الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين والفقهاء المجتهدين.

وابن تيمية رحمه الله أَبطَلَ أصول الفلسفة وهدم أركان علم الكلام وقَوَّض بنيان التصوف وخرَّب قواعد القبورية وسَحَقَ دَعَاوى متعصبة المذاهب ونصر السُّنَّة نصرا مؤزرا بلسانه وقلمه وسيفه، وكانت حجته قوية يشهد لذلك مؤلفاته العظيمة وتلاميذه المشاهير فقد أسس مدرسة علمية بالشام وبمصر هي من أعظم المدارس السلفية عند المتأخرين.

فعلى من يحارب ابن تيمية أن يكون صريحا أنه خلفي متمذهب أو صوفي خرافي أو مُعطل مُحرف أو قبوري مشعوذ أو أنه صاحب فكر متحرر متشبع بالعلمانية والحداثة أو ما إلى ذلك من الانحرافات الواضحة والضلالات البينة، فالحق أبلج والباطل لجلج، وأمور التوحيد هي مسائل اعتقاد وإيمان لا داعي لإدخال التلاعبات السياسية ولا المصالح الشخصية ولا التعصبات المذهبية ولا غير ذلك من الوسائل والأساليب المخالفة للطريقة الشرعية والسنة النبوية.

ومن كان عنده من الشبهات التي يريد إضلال الخلق بذلك فسيجد أقلاما صادقة تدافع عن الحق وأَلْسِنَة صادعة تناصر بالحجة، لأن لهذا الإمام العظيم أياد بيضاء يجب الوفاء له بالحق ونصرته بالعدل كما أننا نقبل كل نقد علمي وبحث منهجي إذا ذكر الناس الحجج والبينات.البقرة 111

وأذكر بتوفيق الله المآخذ المشهورة عبر التاريخ التي ذكرها خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية وأذاعها مخالفوه مشوشين على أهل الحق ساعين بالفتنة بين الناس بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

أما مسائل الأسماء والصفات فشيخ الإسلام ابن تيمية على مذهب السلف الصالح وعلى طريقة المحدثين وهو صورة مصغرة بينة واضحة للإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله، وقد أكد العلماء من خصومه الذين حاكموه وأرادوا النَّيْلَ منه فرفع الله شأنه وأعز أمره ودارت على البغاة الدوائر فلم ينتقم منهم وعفا عنهم وسامحهم وضرب أعظم الأمثال للعالم المسلم والفقيه المؤمن والمجتهد الرباني كما رسم في جبهة الزمن حقيقة السلفية وأخلاق أصحاب الحديث.

وقد كان خصوم الشيخ يصفونه بأنه خالف الأمة جمعاء في مسائل معينة من ذلك مسألة الطلاق المعلق وأن الطلاق الثلاث يُعَدُّ طلقة واحدة، هاته مسائل أقاموا الدنيا عليها واعتبروها زلزالا سيخرب الفقه وعواصف ستُدمِّر العلم، ها هم اليوم في العالم الإسلامي في جميع مدونات الأحوال الشخصية والقضايا الأسرية يعملون بمقتضى ذلك ويحكمون به ويعتبرونه الحق المبين والشرع الأمين في كل بلاد الإسلام إلا قليلا، فهذه لا داعي للبحث فيه.

ومن المسائل التي تعتبر عند ابن تيمية من الطوام كما يقول خصومه ومخالفوه مسألة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ومسألة شَدِّ الرحال لزيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم، أما مسألة التوسل فهو ينقسم إلى توسل شرعي وإلى توسل بدعي وإلى توسل شركي، فأما التوسل الشرعي فهو التوسل بأسماء الله الحسنى أو بدعاء الرجل الصالح كالتوسل بالعباس رضي الله عنه يوم الاستسقاء زمن خلافة عمر رضي الله عنه أو أن يتوسل العبد بعمل صالح لأن العمل في الإسلام من الإيمان قال الله تعالى:آل عمران 16آل عمران 53المؤمنون 109المائدة 83

وأما التوسل الشركي فهو التوسل بجاه الصالحين لأن هذا لم يكن من دأب سلف الأمة أن يتوسلوا بجاه الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين، وكل من توسل بمخلوق فيما يناقض الربوبية فهذا شرك أكبر وهو ما يفعله عباد القبور وسدنة الأضرحة والذين يقدسون المواسم ويعتقدون في المخلوق أن له حقا على الله فهذا شرك أكبر، أما التوسل البدعي فهو التوسل بجاه الصالحين وهذا لا يختلف أهل الحديث وأئمة السلفية في أنه بدعة منكرة، إنما وقع الخلاف في التوسل بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم خاصة كما قال الإمام أحمد ابن حنبل لا يجوز التوسل إلا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نخرج غيره من دائرة الخلاف لا كما يفعل عباد القبور يبدؤون بالكلام عن التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام ثم يتوسعون بالتوسل بجاه الصالحين وهو بدعة منكرة قطعا ثم يبيحون التوسل الشركي بالقبور والمشاهد والاعتقاد في المقبورين ما لا يليق إلا بالله ويقدمون العبادات التي لا تصلح إلا لله، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن التوسل بجاه المخلوق لا يجوز ولو للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأن الأحاديث الواردة في الباب لا يصح منها حديث، وهذا الاختيار هو الذي نختاره ونرتضيه وإن كنا نعد التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم من الاختلاف المعتبر بخلاف غيره فالتوسل بغيره بدعة منكرة وقد تصل في بعض صورها إلى الشرك الأكبر، وهذه المسألة لا تناقض السلفية بحال ولا تضاد طريقة أهل الحديث البتة فلماذا يشوش المفتونون بالقبورية والمشغولون بالمشاهد على أنها من الأمور العظيمة التي خالف فيها شيخ الإسلام الأمة وقد بين العديد من العلماء سواء من تلامذة الشيخ كابن عبد الهادي رحمه الله أو من جاء بعدهم ممن ألف في التوسل كالشيخ الألباني وغيره من أهل العلم وهم كثير مسألة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بيانا شافيا لمن طهَّر الله قلبه من الافتتان بالقبورية ومن أشربت قلوبهم عبادة المشاهد والمواسم والأولياء والصالحين والشجر والحجر والجن والإنس، لكن مرضى القلوب قد أغلقت أفئدتهم بحبها للمعبودات الزائفة وصمَّت آذانهم بسبب الأهواء الزائغة، والمقصود أنها مسألة اجتهادية في باب التوحيد فيها مزيد سد للذرائع حفظا لجناب التوحيد وصيانة لمقام النبوة فلا داعي لوصف هذا الإمام بالخروج عن السلفية أو مصادمة أصحاب الحديث.

أما نهيه رحمه الله عن شدِّ الرحال إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى” فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال إلا إلى الأماكن المذكورة، وشد الرحال إلى مكان آخر لا يوجد فيه شرك لا يجوز لكنه لا يعد شركا ولا كفرا إلا إذا صاحبته قرائن الكفر أو الشرك بل من شد الرحال لزيارة قبر رجل صالح فهو بدعة من البدع وهو أمر محرم لكنه لا يعد شركا أو كفرا إلا إذا اعتقد المرء في المقبور ما لا يجوز اعتقاده إلا في الله أو صرف للمقبور من العبادة ما لا يصلح إلا لله أو عظم المقبور التعظيم الذي لا يليق إلا بالله فهذا هو الشرك الأكبر وهو عين ما يفعل عباد القبور والمشاهد في هذه المواسم الشركية التي تناقض التوحيد وتضاد الإيمان.

إذا فلم يقل شيخ الإسلام ولا غيره من أئمة الدعوة السلفية قديما أو حديثا إن هذه أمور شركية سواء التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو شد الرحال لزيارة قبره الشريف، إنما قال إن النهي عن شد الرحال يضم أيضا شد الرحال إلى قبره الشريف وهو واضح من النص ويزيده وضوحا حرصه صلى الله عليه وسلم أن لا يجعل الله قبره وثنا يُعبد، وأنه لعن اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذروا ما صنعوا، وإغلاقه عليه الصلاة والسلام كل المنافد التي فيها تعظيم الأموات والفتنة بالمقبورين، فكل هذه النصوص الصحيحة والقرائن المعتبرة والمقاصد التي تهدف إلى صيانة باب التوحيد وسد كل ذرائع الفتنة بالمقبورين كل ذلك يدل على صحة المعنى الذي يريده الحديث الشريف في النهي عن شد الرحال، أما من زار المسجد النبوي الشريف فيسن له بإجماع المسلمين أن يزور قبره الشريف وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ولم يخالف إجماع المسلمين.

وقد أمر ابن تيمية المجاهدين وهم في دمشق وما حولها لما قاتلوا المغول بقيادة قازان بأن يفطروا وهم في حضر وليسوا في سفر، فشغب عليه مخالفوه وهذه قضايا فقهية اجتهادية يظهر فيها فقه ابن تيمية للنص وربطه بالأصول والقواعد ونظره البعيد إلى المقاصد والمآلات مما جعل فقهاء المذاهب في عصره وبعد زمانه يشهدون له بالتمكن العميق والقدرة الفائقة، كما أنه أفتى للمرأة الحائض أن تطوف طواف الوداع إذا كانت هناك ضرورة أو حاجة أو مصلحة فيعتبر المخالفون أن هذه الفتاوى تخالف الأئمة الأربعة بما في ذلك مذهب الإمام أحمد ابن حنبل.

وكان شيخ الإسلام رحمه الله يرى فناء النار واستدل على ذلك بأدلة نقلية وعقلية وقد خالفه غيره من أصحاب الحديث وعلماء السلفية وبقولهم نقول وهو إمام مجتهد بين الأجر والأجرين وهو بحر عظيم لا تكدره الدلاء فلا تضره أن تفوته المسألة والمسألتان، وعلى كل حال فلا علاقة لهذه الاجتهادات بما يتصايح به أعداء السنة وعبَّاد القبور.

وهناك قضايا عديدة لا يوجد فيها ما يناقض السلفية ولا ما يضاد أصحاب الحديث البتة.

وأشد ما هيَّج مخالفيه فثاروا بطريقة جنونية واعتبروها الفضيحة القاضية بل بلغ ببعض مرضى القلوب أن كفَّروا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهي مسألة تسلسل الحوادث، أما تسلسل الحوادث في المستقبل فأمر مجمع عليه فسيبقى أهل الجنة في الجنة أبد الآبدين إجماعا ويبقى أهل النار في النار من الكفار والمشركين خالدين فيها أبد الآبدين على الراجح من أقوال أهل العلم.

فتسلسل الحوادث في المستقبل لا تنافي اسم الرب “الآخِر” لأن بقاء المخلوقات التي شاء الله فهو بقاء بالله على سبيل التَّبَع لا على سبيل الاستقلال فكل مخلوق يبقى بإذن الله والله جل وعلا لا يَبقَى بإذن أحد لأنه الله إنما الخلق كلهم الذين شاء الله بقاءهم فهم بالله، فهذا أمر لا إشكال فيه والمسلمون مجمعون على ذلك.

أما تسلسل الحوادث في الماضي وهو أمر ينكره المتكلمون وكثير من الفقهاء والمحدثين، فمراد شيخ الإسلام ابن تيمية أن كل مخلوق مسبوق بمخلوق وهذا لا ينافي اسم الرب “الأوَّل” وكان يهدف إلى الرد على المتكلمين في باب الأفعال الاختيارية التي ينكرها المتكلمون والفلاسفة، وهذا ليس من باب القول بقدم العالم كما شغب خصومه وشوش مخالفوه وظنوها الضربة القاضية والفضيحة العظيمة في حق شيخ الإسلام ابن تيمية بل قد بالغ غلاتهم وكفروه بهذه المسألة على اعتبار أنها قول بقدم العالم ولا شك أن القول بقدم العالم كفر مجمع عليه بين المسلمين.

والذين اعتبروا هذه المسألة أنها قول بقِدم العالم إما أنهم يكذبون ويفترون وهو الظاهر من أقوال أكثرهم وإما أنه الجهل الشنيع بمسألة قِدم العالم ومسألة تسلسل الحوادث وبابن تيمية رحمه الله الذي نسف المنطق وهدم قواعد الفلسفة وأتى على جهالات اليونان وخرافات المدارس العقلية الفلسلفية بما لم يأت به أحد من المتكلمين أو المشتغلين بالفلسفة أو غيرها من علوم الأوائل ولكن التعصب المقيت يُعمي ويُصم.

فابن تيمية يقول ما من مخلوق إلا وقد سبقه مخلوق وهذا لا ينافي أولية الرب ولا يلزم منه البتة القول بقدم العالم وقد تأول رحمه الله النصوص الصحيحة الواردة في الباب كقوله صلى الله عليه وسلم أول ما خلق الله القلم قال المراد في عالمنا عالم السماوات والأرض واستدل بنهاية الحديث “وكان عرشه على الماء” فقد سبق إذا العرش والماء القلم إذا فهي أولية نسبية إضافية، كما تأول رحمه الله حديث “كان الله ولم يكن معه شيء” فقد صحت هذه الرواية كما صحت بصيغ أخرى كقوله “ولم يكن شيء غيره”، “ولم يكن شيء قبله”.

فلا علاقة لهذا الكلام إطلاقا بقدم العالم وقد قال الدكتور البوطي الله يسامحه ويعفوا عنه في كتابه “السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي” وعنوان الكتاب يحمل تناقضا فظيعا، فكيف تكون هذه المرحلة الزمنية المباركة دون قواعد وأصول ومناهج وطرائق وفقه رشيد وعلم نافع وحضارة وقيم ومبادئ وأسس، إذا فهي مرحلة الدراويش والسذج وأناس يُتبرك بهم لكن من جاء بعدهم أعلم وأحكم وأفهم وأدق ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال في هذا الكتاب ما معناه “إن تسلسل الحوادث في الماضي هو القول بقدم العالم فأما أن تُكفروا ابن تيمية بقوله هذا الذي هو قدم العالم فإن وجدتم له مخارج فهي نفسها للحلاج وابن عربي وغيرهم إما أن يُكَفَّروا جميعا وإما تقبل تلك المخارج” هذا معنى كلامه وإن كنت للأمانة قد سمعته بعد ذلك يمدح ابن تيمية ويبالغ في مدحه وسمعته يقول أن ما يوجد في كتاب “الفصوص” و “الفتوحات” كلام باطل لا يقبل شرعا إطلاقا وكأنه يشير إلى أنه مدسوس على أصحابه والله يسامحه ويعفوا عنه.

فهذه المسألة هي من أعظم ما شغب به أعداءه وشوش خصومه لكنهم أرادوا بالقوة أن يجعلوها قدم العالم وشتان شتان بين النور والظلم.

وكثير من علماء السلفية وأصحاب الحديث لا يوافقون ابن تيمية في هذه المسألة وإن كانوا لا يدخلونها في باب قدم العالم ولكنهم جعلوها من الأمور التي لم يذكرها الشرع فلا داعي للخوض في ذلك وهو اختار الخوض عن علم لإبطال قواعد المتكلمين وإثبات الأفعال الاختيارية للرب وأن ذلك لا يخرج المخلوق عن كونه مخلوقا للرب الواحد الأحد الأول الآخر الظاهر الباطن.

بعد هذه الجولة المختصرة يتبين بجلاء أن ابن تيمية إمام سلفي بحق وأنه رائد مدرسة الحديث في زمانه وأنه سلك في مسائل الاعتقاد مسلك الإمام أحمد ابن حنبل فإن كانت من مؤاخذة أو اتهام بالتشبيه والتمثيل أو بالحشوية والظاهرية أو بالجمود والحرفية أو بالحرمان من الغوص العقلي في أسرار الكون وحقائق النصوص فليكن هذا الاتهام لأصحاب الحديث وللإمام أحمد ابن حنبل بل وللسلف الصالح من الصحابة والتابعين فآنئذ فابن تيمية على دربهم ونحن نسلك هذا المسلك وننهج هذا المنهج فلا داعي للكذب والافتراء في محاولة عزل ابن تيمية عن قوافل الأباة ظلما وعدوانا ونحن متمسكون بالسلفية وأصحاب الحديث الذين يناقضون المتكلمين من الأشاعرة والماتريدية ومن متعصبة المذاهب ومن غلاة الصوفية ومن القبوريين عباد المشاهد الذين يحاولون كذبا وزورا أن يتقمصوا لباس السلفية الطاهر فوق أجسادهم القذرة بمخالفة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن مسلك مسلكهم إلى يوم الدين.

وفي الدرس المقبل بحول الله حديث عن محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله بنفس الطريقة التي تم الكلام فيها عن ابن تيمية رحمه الله والله الموفق والهادي إلى الصراط المستقيم.

وصلى الله و سلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ومن سلك مسلكه واقتفى أثره نسأل الله أن يجعلنا منهم بِمَنِّهِ و كرمه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
حسبي الله ونعم الوكيل
وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد
إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب

كتبه أبو عبد الرحمان عبد الحميد أبو النعيم غفر الله له ولوالديه والمسلمين ليلة الأربعاء الثالث عشر من ذي القعدة عام سبع وثلاثين وأربعمئة وألف بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم الموافق 17 غشت 2016م

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *