الرئيسية / مقالات / سلسلة السلفية وأصحاب الحديث وابن تيمية والوهابية / السلفية وأصحاب الحديث وابن تيمية والوهابية 03

السلفية وأصحاب الحديث وابن تيمية والوهابية 03

الحجرات 11-12

إن الشيخ الإمام محمد ابن عبد الوهاب قد جدد عقيدة السلف أصحاب الحديث التي كان قد أحياها قبله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليهما فهي رسالة واحدة ومنهج فريد وطريقة سليمة وأصول واضحة ومن استراب فالعرب بالباب.

إن الكلام عن هذا الإمام يستلزم دراسة الجانب العلمي والجانب التاريخي والسياسي، فقد خلط الناس في ذلك خلطا شديدا غالبه كان عن مكر مسبق وتضليل محقق، كما أنه يجب التفريق في الكلام عن هذا الإمام سواء علمه الذي بثه في صدور الرجال أو ما عايشه بنفسه من أحداث وأحوال أو بين الذي حصل بعده سواء صح ذلك أم كان من افتراءات المبطلين.

أولا : الجانب العلمي

الإمام محمد ابن عبد الوهاب دعا إلى توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة واجتناب الشرك والبراءة من المشركين، فكتبه ورسائله ودروسه وخطبه منشورة مطبوعة مصاحبة بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وتشهد لها مصادر المحدثين والأمهات المعتمدة في ذكر عقيدة السلف.

فالجانب العلمي في شخصية الإمام المجدد رحمه الله هو الأمر “المحكم” الذي يجب أن تُرَد إليه المشتبهات وهذا أمر بيِّن، لكن أهل النفاق والشقاق وسوء الأخلاق يدعون القطعيات ويتمسكون بالوهميات، فيتركون العلم الواضح والدليل الصريح والحجة القطعية والبينات الصحيحة ويتمسكون بتُهم غامضة وشبهات ملتوية وهذا ليس من الإنصاف في شيء فيذكرون أمورا تاريخية ومسائل سياسية فيها الأخذ والرد والقيل والقال يَرُدُّون بها الجانب العلمي الصريح والحجج البينة، وهذا من الظلم لا للإمام وحده ولا لدعوته المباركة فحسب ولكنه ظلم للأمانة وللحقيقة وللتاريخ وللقيم، لكن الملاحظات العلمية التي أوردها الناس في زمانه وإلى اليوم فهذه نقوم جميعا بدراستها وتحقيقها فما وافق السلف الصالح وأصحاب الحديث وفقهاء الآثار فهي من الحق وإلا فلا يُعول على أقوال الرجال مهما علا شأنهم، لأن الحق أحق أن يتبع والحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق.

لقد دعا الشيخ رحمه الله إلى التوحيد الخالص لأنه حق الله على العبيد وبيَّن رحمه الله مستدلا بآيات القرآن الحكيم وأحاديث النبي الكريم أن كل ما يُعبد من دون الله هو شرك أكبر مخرج من ملة التوحيد، وأوضح ما كان بدعة وضلالا مما لا يُعد شركا أكبر ولا كفرا يخرج به المرء عن دين الإسلام.

ولئن كان شيخ الإسلام ابن تيمية قد ركز على توحيد الأسماء والصفات تركيزا كبيرا من غير أن يغفل جوانب التوحيد الأخرى بسبب الأحوال العلمية والظروف الفقهية التي كانت تموج في زمانه، فإن الإمام المجدد محمد ابن عبد الوهاب قد فسَّر توحيد الإلاهية والعبادة تفسيرا تاما، وأبطل الشرك والقبورية والخرافة والشعوذة لأنه قد ظهر في أزمنة الجمود والتخلف وكانت الأمة في حالة من السقوط والاندحار في شتى الميادين، فدعا رحمة الله عليه إلى توحيد الإلاهية وإفراد الرب بالعبادة واجتناب الشرك والبراءة من أهله، وقد رجع المسلمون في زمانه وقبله إلى الجاهلية الأولى فأصبحوا يعبدون القبور والمشاهد والأضرحة والمواسم كما كان يفعل أهل الجاهلية مع الأصنام والأوثان والأنصاب والأزلام، وقد يدَّعي بعض عبدة القبور وسدنة الأضرحة أنه يستحيل أن تعود هذه الأمة إلى الشرك الأكبر الذي كان في الجاهلية وهم يقرؤون في كتاب الله عز وجل أن اليهود والنصارى كانوا على التوحيد في أيام أنبيائهم ثم أصبحوا أهل شرك وكفر ووثنية وعُبَّاد للصليب والعُزير وما إلى ذلك من الكفر البواح ناهيك عن تحريفهم الكفري وتبديلهم الشركي وكفرهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم المذكور في كتبهم ذكرا صريحا وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وقد صحت الأحاديث أن هذه الأمة سترجع إلى عبادة الأوثان ولن تقوم الساعة حتى تضطرب أَلْيَاتُ نساء دَوْسٍ على ذي الخَلَصَة، وذو الخلصة صنم باليمن كان يعبده المشركون في الجاهلية.

لقد كانت دعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب إلى نبذ الشرك ورفض الكفر لأنه لا يجوز أن يُعتقد في مخلوق ما لا يليق إلا بالله، ولا يَحل أن يُصرف شيء من العبادة لمخلوق البتة ولو كان مَلَكا مقربا أو نبيا مرسلا فضلا أن يكون من الجن أو أهل الفتن أو الأشجار والأحجار أو الطواغيت والصلبان أو الأضرحة والأوثان فكل ما يعبد من دون الله شرك أكبر وكفر أعظم، والعبادة الشركية هي دعاء غير الله والاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله والذبح لغير الله والنذر لغير الله وخوف السِّر الذي لا يصلح إلا لله والمحبة المطلقة التي هي محبة العبودية لا يجوز صرفها لغير الله من المقبورين والأضرحة والمشعوذين والجن والإنس مما يفعله المشركون مع معبوداتهم، وبعض الصور التي لا تصل إلى حد الشرك قد تكون بدعة محرمة، وهناك مسائل وقع فيها الخلاف فتركها يكون أولى لكن لا يُحكم على صاحبها بالبدعة فضلا أن يوصف بالشرك إلا إذا وقع العبد في الشرك وتوفرت الشروط وانتفت الموانع وقد جعل الله لكل شيء قدرا.

دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب في غاية الوضوح وبينة كالشمس وهي طريقة السلف الصالحين وعلى منهاج أصحاب الحديث وهي دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وورث الشيخ ابن عبد الوهاب هذا الميراث النقي والعلم الزكي والنهج السوي والصراط الحق وهاهي كتبه موجودة ورسائله مطبوعة وعلمه ورثه جيل بعد جيل، لكن أهل الزيغ يُحرفون الكلم عن مواضعه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله تأويلا فاسدا.

لم يُعرف عند الأمة في القرون الثلاثة الأولى وخصوصا في زمن الصحابة والتابعين أي ضريح ولا موسم ولا مشهد ولا طاغوت يُعبد من دون الله البتة وهذا أمر مجمع عليه وإنما الذين بدؤوا بهذه الفتنة الهوجاء وهي عبادة القبور والمشاهد والطواغيت والأضرحة هم غلاة الشيعة وأئمة الروافض حتى أصبح دينا باطلا عندهم جميعا لا يعرفون إلا عبادة الأئمة من أهل البيت والأئمة رضوان الله عليهم بُرآء من هذا الكفر الشنيع والشرك الفظيع، ثم انتقلت هذه العدوى الفتاكة إلى جهلة أهل السنة ثم تطورت تطورا بشعا أصبح الناس يعبدون الأشجار والأحجار والمواسم الشركية والمشاهد الكفرية، فإنك لو جلت العالم الإسلامي لوجدت في كل قرية طاغوتا يعبد من دون الله، بل قد تجد طواغيت عدة في قرى صغيرة جدا، وهذه الظاهرة كارثة في باب الإيمان ومصيبة عظمى تناقض التوحيد.

ولا يختلف أصحاب الحديث وفقهاء الآثار وعلماء الملة وأصحاب الفتوى في المذاهب الأربعة وغيرها من أقوال أهل العلم في أن ما يفعله عباد القبور شرك أكبر مخرج من الملة وقد نقل شُرَّاح كتاب التوحيد أقوال أئمة المذاهب الفقهية في باب توحيد الإلاهية وإفراد الرب جل وعلا بالعبادة بأنه لا يجوز بحال أن يُعبد مع الله غيرُه وهذا شرك أكبر من غير خلاف يذكر.

وشيخ الإسلام ابن تيمية كان حاملا لراية التوحيد عابَ على المشركين شركهم وطعن في الزنادقة والملاحدة وهاجم عبدة القبور بحجج قاهرة وأدلة بينة، ولا تختلف أقواله عمَّا دعا إليه الإمام المجدد محمد ابن عبد الوهاب.

فنحن نسأل عُبَّاد القبور ما هو الأمر الذي جاء به ابن عبد الوهاب رحمه الله يخالف به السلف الصالح ويناقض فيه أصحاب الحديث ويصادم فيه ابن تيمية ويقول فيه بخلاف الحنابلة؟ بل أين بدعته التي جاء بها لا يعرفها المسلمون؟ ستُكتب شهادتهم ويُسألون.

قال الله تعالى:الصافات 35-37ص 4-6

فلما ظهرت هذه الدعوة ظهورا بيِّنا وكانت فيها الحجة قوية وانضم إلى قافلة النور العلماء المحققون الذين كانت تمنعهم الفتن من إعلان كلمة الحق ووجد الناس في هذه الأجواء الربانية من توحيد رب العالمين ومتابعة سيد المرسلين ما نفَّرهم من الشرك والوثنية وعبادة الأضرحة والأساطير والخرافات والأوهام والسحر والشعوذة وتقديس الشيوخ إلى حد العبادة التي لا تصلح إلا لله، وانتشر هذا الخير فسمع به الناس في كل البلاد، ولقد زار وفد من علماء المغرب الكبار أهل التوحيد في موسم الحج أيام الملك سعود الذي ناصر الشيخ في دعوته ودار بينهم حوارات ومناظرات فشهد علماء المغرب أن هذا هو الحق واعترفوا أن ما بلغهم عن دعوة الشيخ وجدوا أنها افتراءات وأكاذيب وهذا دأب المشركين في كل زمان يكذبون على أهل الحق ويفترون على دعاة التوحيد، وكان هذا زمن الملك سليمان العلوي رحمه الله وقد اقتنع هذا الملك بهذه الدعوة وأراد إزالة القباب والمشاهد والمواسم والأضرحة وليته فعل رحمه الله فقامت عليه قيامة أهل البدع وأصحاب الشرك وعبدة الأضرحة وشيوخ الضلال فكانت فتنة كبيرة تنازل فيها للمُلك لابن أخيه عبد الرحمن بن هشام رحمه الله والقصة بطولها في الاستقصاء في أخبار المغرب الأقصى وفي كل من كتب في تاريخ المغرب، فلما انتشر هذا الخير وعرف الناس الحق قامت قيامة أعداء التوحيد وثاروا ثورة هائجة فنشروا الأكاذيب وأذاعوا الإفتراءات ولم تكن لهم القدرة ولن تكون على إبطال هذا الحق بالدليل من الكتاب والسنة وإنما اختاروا هذه الطرق الساقطة ولا زالوا يسلكونها في محاربة هذا الشيخ وفي الطعن في دعوته.

ولو كان الطعن في ابن عبد الوهاب أو في ابن تيمية طعونات شخصية لهان الخطب، ولو كانت المنافسة بينهم وبين غيرهم فهذا شأن معروف وأمر مشاع بين العلماء في كل زمان ومكان، ولو كانت المسألة مسألة منافسة الأقران فكتب الرجال مليئة بالانتقادات الشديدة بين الأقران يغفر الله لعلماءنا جميعا ويسامحهم ويعفوا عنهم، لكن المسألة هنا مسألة الطعن في التوحيد ومحاربة السنة الصحيحة ومناصرة الشرك الأكبر والذب عن أهل البدع والأهواء بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

فنحن نتكلم عن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب في الجانب العلمي أوَّلا لأنه منصوص عليه موجود في الكتب منقول بالتواتر جيلا عن جيل شرحه أولاده وأحفاده وتلامذته شروحا مفصلة، فهذا الإرث العلمي موجود بين أيدينا يوافق موافقة كاملة ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين والفقهاء المجتهدين.

فنحن نطلب ممن يحارب هذه الدعوة وينتقص هذا الإمام ويُشيع الفاحشة بين المؤمنين بالشهادات الباطلة أن يبين لنا بالحجة والبرهان ما يخالف التوحيد الخالص في كتب الشيخ أو يُناقض ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها الأبرار، وقال الله تعالى:النساء 141

فنذكر على سبيل المثال أن المخالفين لابن عبد الوهاب ينكرون عليه مسألة التوسُّل والتَّبرك ويعتبرونه قد غلا في ذلك غلوا فاحشا، بل بعض علماء الحديث في زمانه وهم الصنعاني والشوكاني قد خالفا الإمام المجدد في هذه المسألة، وعلماء المغرب الذين ناظروا الملك سعود الذي ناصر الإمام المجدد وكان معه جمع من العلماء بموسم الحج فذكر لهم علماء المغرب أنهم وافقوهم في كل ما ذكروه إلا في موضوع التوسل وكان صاحب الاستقصاء الذي ذكر القصة كلها وأظهر محبته الشديدة لدعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب إلا أن صاحب الكتاب نفسه كان يتساهل في باب التوسل.

قد ذكرنا أقسام التوسل في الكلام عن ابن تيمية رحمه الله لكن أريد أن أوضح أن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب ومن سلك مسلكه من دعاة التوحيد لا يجعلون التوسل بالصالحين شركا أكبر إنما هو بدعة محرمة عندهم لأنه مادام العبد يعتقد أن الرَّبَّ رَبٌّ وأن العبدَ عَبدٌ وأنه ليس لمخلوق على الله حق ولو كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا فقد برئ العبد من الشرك الأكبر لكنه قد يقع في بدعة محرمة أو في معصية ظاهرة أو في صغيرة من الصغائر أو في ما هو خلاف الأولى أو في قضية خلافية أو ما إلى ذلك لكن إذا توسل العبد بمخلوق على أن له حقا على الله فهذه شفاعة منفية وتوسل شركي، فلماذا يخلط القبوريون بين التوسل الشرعي والتوسل البدعي والتوسل الشركي؟ وقال الله تعالى:الفرقان 44

أما التبرك فهو كذلك ينقسم إلى شرعي وإلى بدعي وإلى شركي:

أما التبرك الشرعي وهو ما دلت عليه الأدلة الشرعية بالتبرك بالأشخاص أو الأماكن أو الأزمنة، فالصحابة كانوا يتبركون بالنبي عليه الصلاة والسلام بعَرَقِه وبشَعرِه وببزاقه ونُخَامَتِه و سُؤرِه وبفضل وضوءه وهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أو لعل الصحابة تركوه سدا للذريعة، وفي كل الأحوال قد حصل الإجماع على ترك ذلك، ويجوز التبرك بدعاء الرجل الصالح الحي الحاضر القادر من غير غلو في ذلك، والتبرك بالأمكنة كالمساجد الثلاثة والحجر الأسود وماء زمزم وما إلى ذلك مما ورد فيه النص بالمقدار الشرعي الذي ورد به النص، والتبرك بالأزمنة كشهر رمضان ويوم عرفة ويوم عاشوراء بالطريقة النبوية والسنة المحمدية، فهذا تبرك شرعي.

أما التبرك البدعي فهو ما يفعله الناس مع شيوخ الطرق الصوفية والتبرك بالزوايا وفي أيام يعظمها الناس بغير حجة شرعية ولا بينة ربانية، وورث الناس هذا من الروافض الذين يعظمون تربة كربلاء ويقدسون علماءهم وشيوخهم ويتبركون بالأيام كعاشوراء يوم مقتل الحسين ويوم الأربعين بعده ولهم طوام عظيمة ومصائب كبيرة كلها بدع وضلالات وبعضها شرك أكبر وكفر أعظم، وقد انتقلت هذه الفتن إلى جهلة أهل السنة والجماعة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أما التبرك الشركي وهو أن يعتقد العبد في أشخاص يتبرك بهم ما لا يصلح الاعتقاد فيه إلا لله أو يُعظمون أمكنة ويتبركون بها ما أنزل الله بها من سلطان أو يقولون عن أزمنة كلاما مناقضا للتوحيد، ومثال ذلك ما يعتقده الرافضة في أئمة البيت وغلاة الطرقية في شيوخهم وعَبَدَة القبور في أضرحتهم، فهذا التبرك شركي لأنه يناقض التوحيد وينافي الربوبية ويهدم أركان توحيد الألوهية فليس هو مجرد تبرك بل ولا هو بدعة غليظة فحسب بل هو ولوج ظاهر لأبواب الشرك الأكبر البيِّنة، فالتعظيم مثلا للأشخاص هناك حَدٌّ مشروع يُعظم فيه الآباء والأجداد والعلماء والمشايخ والولاة والقضاة فهذا جائز وقد يكون مستحبا وقد يكون واجبا كتعظيم الوالدين وتعظيم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد يكون التعظيم محرما وهو الذي فيه ضرب من الغلو، وقد يكون التعظيم شركا أكبر وهو تعظيم المخلوق التعظيم المطلق الذي لا يليق إلا بالله ولا يصلح إلا لله، فكذلك التبرك الشركي بالأشخاص والأمكنة والأزمنة.

ولا يكتفي عُبَّاد القبور بالذب عن التبرك البدعي فقط بل ينتصرون انتصارا للتبرك الشركي وهذا موجود في دروسهم وكتبهم ويحضرون بأنفسهم إلى هذه المواسم الشركية ويعملون الأعمال المناقضة للتوحيد عياذا بالله ونعوذ بالله من سوء الخاتمة، ونعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر، ونعوذ بالله من السَّلْب بعد العطاء، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ.

كيف يفسر المخالفون للحق ذهاب الناس إلى المواسم وهم يعتقدون أن صاحب الضريح يَضُر ويَنفَع ويُعطي ويَمنع ويَرفع ويَضع وهم يَدعُونَه ويستغيثون به ويطلبون منه قضاء الحاجات وتفريج الكربات ويبكون عند قبره بكاءً شديدا ويشكون إليه ما يضرهم ويريدون منه أن يَحُلَّ مشاكلهم ويقضون الليالي والأيام ذوات العدد في المواسم ويذبحون الذبائح ويوفون بالنذور ويطلبون الأولاد ويسألونه تزويج البنات وتوفيق الأولاد ونجاح الأعمال، فإذا لم يكن هذا شركا أكبر فما هو الشرك الأكبر؟ ويعتقدون في المكان القداسة وفي التربة الطهارة وفي أيام الموسم أنها أيام مقدسة ويُسمون هذه الظلمات بأنها تبرك شرعي وتوسل محمود كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، بل هو شرك أكبر كشرك الأولين.

وقد يقول قائل إنني أتبرك دون هذه الاعتقادات الفاسدة وأن المقبور مجرد بشر والعبد عبد والرب رب وإنما أتوسل بجاهه لا على أن له حقا على الله وأتبرك بزيارته بعيدا عن نهج الشرك، نقول له إن صدقت في كلامك فلست عندنا من المشركين وإنما وقعت في التوسل البدعي والتبرك المحرم، لكن لا يحل لك أن تنافح عن عبدة القبور وتقول هم يتوسلون ويتبركون فقط، فعباد القبور يعتقدون في المقبور ما لا يليق إلا بالله ويُقدمون من العبادات ما لا يصلح إلا لله ويُعظمون المقبور التعظيم الذي لا يليق إلا بالله فإن تبرأ منهم هذا المجادل وإلا فهو مثلهم سواء بسواء، ومن الناس من لا يوافقهم على أفعالهم ولكنه يعذرهم بالجهل أو بالخطأ أو بالتأويل أو بالتقليد ويجعل ذلك عاما وهذا باطل، لو كان الأمر في شخص أو شخصين لكان محتملا أما أن يُعذروا جميعا فهذا مناقض للرسالة ومُضادٌّ لدعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويكفي في بطلان هذا الكلام أنه يؤول إلى أن هذه الأمة التي هي أمة الشهادة على الخلق معذورة بالجهل وغيره في باب التوحيد، فكيف تكون الأمة الجاهلة الغارقة في الشرك شاهدة على الخلق وما آل إلى باطل فهو باطل قال الله تعالى:البقرة 143-2

بل هي أمة العلم والعمل والدعوة والشهادة على الخلق وإقامة الحجة على الناس.

كذلك موضوع زيارة القبور فيها ما هو شرعي وما هو بدعي وما هو شركي، فمن زار مقابر المسلمين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في زيارته للبقيع ولشهداء أُحُد، وكان صلى الله عليه وسلم يوصي بالدعاء وسط المقابر للمسلمين فهذه زيارة شرعية، أما الزيارة التي تصاحبها البدع من شَقِّ الجُيوب ولَطْمِ الخدود والغلو في النياحة وتعظيم المقبور والأدعية المبتدعة وقصد الأضرحة وشَدِّ الرِّحال لها والغلو في الأموات فهذه كلها بدع باطلة وزيارة محرمة، أما الذين يأتون الأضرحة والمشاهد يطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات ويعتقدون فيهم أنهم يقدرون على كل شيء مما لا يقدر عليه إلا الله ويَصْرِفُون لهم من العبادات ما لا يليق إلا بالله من الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر والحب والخوف والرجاء والخشية والرهبة والإنابة والتوبة والطواف وما إلى ذلك من أنواع العبادات التي لا تصلح إلا لله يفعلون ذلك مع المقبور، فهذه زيارة شركية وتبرك شركي وتوسل شركي وهي عبادة لا تصلح إلا لله يجعلونها لغير الله وهذا مناقض للتوحيد مناقضة كاملة ومناف للإيمان تمام المنافاة وهو عين الشرك الذي كان عليه المشركون من العرب وغيرهم من الأمم السابقة الذين جاء الأنبياء جميعا بإبطاله، وقد قام النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالقضاء على الشرك الأكبر والأصغر قضاء تامًّا وأعلَى راية التوحيد وترك الأمة على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

فلما سطع نور الحق وتبدد ظلام الشرك وانفضحت جرائم عُبَّاد القبور وانكشفت أباطيل شيوخ الضلال ورؤوس الفتنة عمدوا إلى التلاعب والمراوغة بَدَلَ الرَّدِّ على الحجة بالحجة فبدؤوا يستدلون بنصوص الزيارة الشرعية والتوسل الشرعي والتبرك الشرعي للاحتجاج على مشروعية الزيارة البدعية والتوسل البدعي والتبرك البدعي ثم جرَّهُم شيطان الهوى وحب القبور وتعظيم المشاهد وتقديس المواسم والفتنة بالأضرحة جرهم الشيطان إلى الاستدلال بنصوص الحق على تبرير الشرك والشعوذة والخرافات والأساطير مما هو كفر بواح وشرك أكبر وخروج من ملة التوحيد.

ولقد ابتدع لهم الشيطان بدعة عظيمة بل شركا صراحا وهو أن كل من بيَّن وجه الحق سمَّوه “الوَهَّابِيُّ” وهذه التسمية باطلة، لأن الحق الذي دعا إليه الشيخ محمد ابن عبد الوهاب هو عَيْنُه الذي نشره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو طريقة أهل الحديث وأساطين الآثار وهو نفسه ما ذهب إليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين، وإذا كان هناك خلاف في التوحيد والعقيدة وفي الإيمان والعبادة فليبين خصوم أهل الحق ذلك بالكتاب والسنة وفقه السلف الصالح، لكنهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير فيختارون الأكاذيب والافتراءات والدعاوى والشبهات والالتواءات والمراوغات ولا يستطيعون إطلاقا مواجهة الحجة بالحجة لأن الحق أبلج، ولا يُلقَّاها إلا الذين صبروا ولا يُلقَّاها إلا ذو حظ عظيم.

وقد تلقف العلمانيون والحداثيون هذه التهمة الباطلة وهي “الوهابي” فصاروا يصفون بها كل مسلم مستقيم حتى ولو كان على غير طريقة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب، فهاجم هؤلاء المرتدون القرآن الكريم وأساؤوا إلى النبي الأمين وطعنوا في الصحب الكرام وتنقصوا أمهات المؤمنين واستهزؤوا بالأئمة المهتدين وشوهوا تاريخ الأمة المجيد كل ذلك تحت ذريعة الحرب على الوهابية والإرهاب والتطرف كذبا وزورا وإنما يهدفون إلى الطعن في الشريعة ومهاجمة الإسلام والحرب على القرآن فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون.

وأصبحت الدوائر العالمية والمخابرات الأجنبية والاستكبار العالمي والصهيونية المتغطرسة كل هؤلاء يصفون أهل الإسلام الأمَّارين بالمعروف والنَّهائين عن المنكر والقوَّالين بالحق بأنهم وهابيون إرهابيون، فاجتمعت كلمة أهل الكفر والردة والشرك على وَصْمِ أهل الحق بهذه الصفات الشنيعة على سبيل التشويه كذبا وزورا وإلصاق كل التُّهم التي صنعها المجرمون في مختبراتهم الجهنمية ومنظماتهم العالمية وجمعياتهم السرية فهم أهل المكر والغدر والفتنة والفساد فاجتمعت كلمتهم على الباطل وكفى عباد القبور سوءا أن تتشابه قلوبهم مع اليهود والنصارى والمرتدين والمنافقين، بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين.

فغلاة القبوريين يذمون أصحاب الحديث وشيخَ الإسلام ابن تيمية والإمامَ المجدد محمد ابن عبد الوهاب ويُحاربون أهل الحق ويصفونهم بأنهم مُشبهة حَشوية ظاهرية حرفية محجوبون عن الأسرار والأنوار وأنهم بسطاء الفهم سذج في العلم.

أما بعض أذكيائهم فقد أيقنوا أن حجة أصحاب الحديث قوية وعلموا أن ابن تيمية قد تبوأ في الأمة مقاما سَنيًّا وأدركوا أنهم إذا هاجموا أئمة الحديث وطعنوا في ابن تيمية سيرفض الناس أقوالهم وسيفند العقلاء أباطيلهم فلجؤوا إلى خطة شيطانية شنيعة فقالوا إن محمد ابن عبد الوهاب فقط هو المبتدع وهو الضال وهو الخارجي وهو الذي أسس مذهبا خامسا وهو عدو الأئمة الأربعة وهو رأس التكفير والتفجير والإرهاب والفتنة وقَصْدُهم الشيطاني هو ضرب السلفية وأصحاب الحديث وابن تيمية وأهل الحق جميعا وهي شيطنة واضحة ومكر إبليسي صريح، وإلا فأين الخلاف بين محمد ابن عبد الوهاب وابن تيمية وأًصحاب الحديث والسلف من الصحابة والتابعين، قال الله تعالى:البقرة 111فنحن نقول هاتوا برهانكم، اذكروا أدلتكم، ردوا على الحجة بالحجة، ها هو كتاب الله بين أيدينا، بيننا وبينكم كتاب الله، بيننا وبينكم كتاب الله، أما الالتواء والمراوغة والعبث والزيغ فهذا لن ينفعكم أبدا في الدنيا ولا في الآخرة قال الله تعالى:الزخرف 80

ومن الأشياء التي يركز عليها خصوم هذه الدعوة في الجانب العلمي وهو مسألة التكفير أي أنها دعوة تُكفر المسلمين، ثم مسألة الخروج أي أن ابن عبد الوهاب كان خارجيا، ويذكر المخالفون أيضا أنها دعوة غلو وتنطع لا تعذر بالجهل ولها قول انفردت به في إقامة الحجة وفهم الحجة وما إلى ذلك من مسائل علمية ذكرها أقوام في زمانه وبيَّن هو رحمه الله وأوضح تلامذتُه الحق في ذلك لكنها لازالت تُكَرَّر إلى يومنا هذا، تشابهت قلوبهم قال الله تعالى:الذاريات 53

والعجيب أن الذين يذكرون مسألة التكفير والخروج يَدَّعون أنهم بُرَآء من الإرجاء والتجهم ويحملون حملة شعواء على من وقع في هذا الجرثوم المسموم الذي هو عقيدة المرجئة والجهمية، لكنهم للأسف الشديد يتعاملون مع الشيخ محمد ابن عبد الوهاب بمناهج المرجئة وطرائق الجهمية لأن الهوى يُعمي ويُصم لأن عُبَّاد القبور قد فُتنوا فتنة عظيمة بمعبوداتهم فلا يعرفون أسفل الوادي من أعلاه.

فالمرجئة والجهمية يرون كل من خالف السلطان فهو خارجي، أما أهل السنة والجماعة إذا تغلب الرجل في أرض أصبح إماما مطاعا وهذا فرق جوهري وإلا كان الأندلس أيام بني العباس خوارج وكان المغرب منذ أيام الأدارسة من الخوارج وأن المغرب انفرد عن الأمة أيام العثمانيين انفرادا كاملا فهل قال أحد من العلماء حتى في بلاط العثمانيين أن المغاربة أيام السعديين والعلويين هم خوارج، أو لم يستقبل السلطان العثماني المنصور الذهبي وقبل شفاعته في أن ينزل رأس أبيه المُعَلَّق مع رؤوس الملوك فقبل السلطان العثماني شفاعة المنصور الذهبي في أبيه، أم أن عبدة القبور وسدنة الأوثان يخلطون الباطل بالباطل، فتفسيرهم لمعنى الخوارج تفسير إرجائي جهمي، صحيح فالأصل أن تكون الأمة واحدة وأن يكون خليفة المسلمين واحدا وأن تحكم الأمة بشريعة القرآن هذا أصل أصيل لكن رحمة الشريعة وعدلها وحكمتها وما يسمى بلغة العصر الواقعية إذ يتعامل المسلمون مع ما يُحقق المصلحة الأكبر ويدرأ المفسدة الأعظم، فلما كان التغلب يحقن الدماء ويحفظ الأعراض ويصون الأموال راعته المقاصد العظيمة وأُخذت بعين الإعتبار المآلات الكبيرة وشتان بين فقه أهل السنة والجماعة وأقزام المرجئة وسفهاء الجهمية.

أما فيما يتعلق بالتكفير وأن الشيخ الإمام المجدد كَفَّر المسلمين فإن كان المعترض يسلك مسلك المرجئة والجهمية فهم يَعُدُّون أهل السنة والجماعة خوارج ويحكمون عليهم بأنهم يُكَفِّرون المسلمين بغير حق كما أن الخوارج يحكمون على أهل السنة والجماعة بأنهم مرجئة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أما إذا كان المعترضون من أهل السنة والجماعة وأرادوا استعمال القواعد والتمسك بالأصول فنحن نطالبهم أين تكفير المسلمين عند الشيخ محمد ابن عبد الوهاب حسب قواعد أهل السنة وأصول أئمة الجماعة وسأذكر بتوفيق الله وتيسيره في الدروس المقبلة “السلفية وأصول التكفير” القواعد والأصول التي اعتمدها أهل السنة والجماعة في مسائل التكفير.

أما مسألة العذر بالجهل وإقامة الحجة وفهم الحجة والنوع والمعين والشروط والضوابط التي انتهجها الإمام المجدد فهي أصول أهل السنة والجماعة ولما كان أعداؤه ومبغضوه على مذهب الماتريدية والأشاعرة وطرائق المتكلمين اعتبروا مذهب أهل الحق مذهب الخوارج فحكموا على أهل الحق من خلال الإرجاء والتجهم وهذا معروف عليهم وسنبين بتوفيق الله وتيسيره مذهب أهل السنة والجماعة ليميز الله الخبيث من الطيب وليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة ولتستبين سبيل المجرمين، فما بال أهل السنة والجماعة الذين ينكرون على الجهمية والمرجئة وغلاة المتكلمين ينهجون نهجهم ويسلكون مسلكهم، هل يصل الهوى بالعبد أن يفرق بين المتماثلات ويجمع بين المتناقضات؟

ليس من المستغرب أن يحصل هذا الانتقاد ممن تشربوا الإرجاء ولا ممن تشبعوا بالتجهم فأمر طبيعي أن يحكموا على أصحاب الحديث وأهل الأثر بأنهم خوارج، لكن الذي أثار الاستغراب أن يقوم من يحارب الإرجاء والتجهم ويحمل على ذلك حملة شعواء فإذا به يسقط بسبب الهوى وعبادة القبور وتقديس الأضرحة وتعظيم الأموات التعظيم الذي لا يليق إلا بالله ومعاملة الشيوخ الأحياء بما هو أعلى من درجات النبوة بل يصفونهم بأوصاف الربوبية وأنهم يعلمون الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ويقدرون قدرة مطلقة مما لا يقدر عليه إلا الله وهذا هو شرك الأولين وكفر الملإ من قريش.

ثانيا : الجانب التاريخي والسياسي

لقد لجأ خصوم الدعوة من عباد القبور وسدنة المشاهد وأهل تعظيم الأضرحة وأصحاب المواسم إلى خلط الأمور بالالتواء والمراوغة، فَبَدَلَ أن يناقشوا الجانب العلمي الذي هو الأمر “المحكم” فهو مكتوب ومطبوع ومشروح وموروث جيلا عن جيل ولم يستطيعوا البحث فيه أو إبطاله بالحجة لجؤوا إلى أمور تاريخية وسياسية تتضارب فيها الأقوال وتتعدد الروايات ويتناقض الناس في ذلك وهو الأمر “المشتبه”، فأهل العلم يَرُدُّون المشتبهات إلى المحكمات أما أهل الزيغ فيتبعون المشتبهات لإبطال المحكمات.

فهناك أمور تاريخية وسياسية عاشها الإمام المجدد رحمه الله، وهناك أمور لم يعشها ولم يحضرها، فهم في كلامهم عما يسمونه “الوهابية” يريدون إبطال الجانب العلمي بأمور تاريخية وسياسية تحتاج إلى وقفات ووقفات ويُحَمِّلون الشيخ رحمة الله عليه ما يحدث اليوم من أمور سياسية فيقولون “الدولة الوهابية” فيها كذا وكذا، وغرضهم من ذلك هو محاربة الجانب العلمي الذي هو حق موروث عن أئمة الدين وأصحاب الحديث بل عن سلف الأمة من الصحابة والتابعين.

فقد وصف عُبَّاد القبور الشيخ بأنه تكفيري وأنه خارجي وقد بينا شيئا من ذلك في الكلام عن الجانب العلمي.

وقالوا إن الشيخ قد أسرف في الدماء وقاتل المسلمين واستباح دماءهم وقد نقل عن الشيخ أنه قال لقد حاربونا وهاجمونا واعتدوا علينا، وله رسائل مطبوعة إلى شيوخ القبائل وإلى فقهاء زمانه يدعوهم إلى دعوة الحق وكان كثير اللين معهم وقد بالغ في الإحسان إلى من أساؤوا إليه، فنحن الآن بين أخبار متناقضة وليس لنا من سبيل فكل يصف الطرف الآخر بالاعتداء والظلم، فكيف يُطلق أعداؤه وخصومه عليه التهم بغير حجة شرعية إلا أقوالا ورثوها عن عباد القبور وسدنة المشاهد وأصحاب تعظيم الأضرحة والمفتونون بالمواسم؟ فهؤلاء ليسوا عدولا ولا ثقات من جهة، وهم خصوم وأعداء من جهة أخرى، وهم أقران متنافسون حيث لا يقبل قول الأقران في بعضهم البعض إذا كانت بينهم عداوات وإحن إجماعا، فيُعمي الحقد الدفين والهوى البغيض عباد القبور فلا يستعملون القواعد ولا يلتزمون الأصول ولا يتمسكون بمناهج البحث ولا طرائق الدراية، ولهذا تجد في كتابات المعترضين عليه ودراسات المتحاملين عليه ما يخالف أول الكتاب آخره ويستدلون بما هو حجة عليهم ويكيلون بمكاييل متعددة.

أما ما حصل بعده من الحكام سواء صح ذلك أم لم يصح، وإذا صح هل ورد كما حصل أم كانت هناك مبالغات، فما علاقة الشيخ بذلك؟ ولا سيما والحكام يغلب عليهم الظلم والفساد وحب الدنيا وتعظيم الكراسي وإذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وقد وقع التنافس كما يقع عند الكثير من الناس، فما علاقة إمام الدعوة بهذه الأمور، فإن أبيتم الا الزامه بذلك قلنا لكم قد اختلف أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في أمور شرعية وكل أهل السنة والجماعة متفقون على تعظيم الصحابة والقول بعدالتهم وأن ما حصل بينهم كان على سبيل التأويل رضي الله عنهم أجمعين، فهل نُحَمِّل الإسلام مسؤولية ما حصل كما فعل المستشرقون والمنصرون؟ صحيح القياس هنا مع الفارق لأنه قد يحصل تاريخيا وسياسيا في أرض نجد زمن الشيخ وبعده من المخالفات الشرعية التي يؤاخذ الناس على ذلك بخلاف اجتهاد الصحابة وتأويلهم، المقصود لماذا يحمل المبتدعة الشيخ وتلامذته ودعاة الحق وأئمة الهدى ما حصل من أحداث تاريخية وأمور سياسية.

عندما يتكلم خصوم الشيخ ابن عبد الوهاب يذكرون ما فعله الملك عبد العزيز آل سعود يزعمون أنه قتل وسفك وأباد بعض الموحدين فإن كان من لوم إذا صح ذلك فهو على الملك عبد العزيز لا على الإمام المجدد محمد ابن عبد الوهاب.

وكل من كتب عن الملك عبد العزيز من غير أهل بلده وصفوه بأوصاف عظيمة، وكان شيخنا الدكتور محمد تقي الدين الهلالي وهو يعرفه عن قُرْب حسن الرأي فيه، بل قد درس أولاده وكان أستاذا وصديقا للملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، ولم يمنعه ما وقع من وحشة بينه وبين الملك عبد العزيز في آخر الأمر أن يشهد شيخنا شهادة الحق، ونحن لا ننكر ان هناك فرقا شاسعا بين الملك عبد العزيز رحمه الله ومن جاء بعده والله المستعان، والذي يهمنا في هذا البحث أن هذه الأحداث التاريخية والسياسية لا علاقة للإمام المجدد بها لا من قريب ولا من بعيد ولكن المنافق إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وإذا اؤتمن خان ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

والأمور السياسية وعلاقة الدولة السعودية ببريطانيا وبعدها بأمريكا يذكرها عباد القبور لإبطال دعوة الشيخ التي هي علم التوحيد وفقه السنة ونبذ الشرك والبراءة من المشركين وطرح البدعة وإهانة المبتدعين.

قال أحد الناس: “لقد سئل البطل الكبير محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه الله عن دعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب فقال هي دعوة حق إلا أني أتحفظ من علاقتهم بالإنجليز”، والبطل المغربي الكبير كان سلفيا وأبوه رحمه الله عبد الكريم الخطابي كان قاضيا وكان سلفيا كما في كتاب مذكرات في تاريخ المغرب، وهذا الذي نقل الكلام أعماه الهوى فهذا الكلام حجة عليه وليست له كما ظن، فقد شهد للجانب العلمي بأنه حق وهذا هو قولنا ومرادُنا وفي ذلك الجانب من كشف عُوَّار عُبَّاد القبور وفضح شيوخ الضلال بالحجة والبرهان ما يثلج صدور أهل التوحيد ويخزي أصحاب الشرك.

إن علاقة أي بلد مسلم بغيره من البلدان هو تابع للسياسة الشرعية ويتحمل ولاة الأمور من الحكام والعلماء مسؤولية ذلك، وإن كان الواقع المرير يشهد بضعف المسلمين وقوة عدوهم وأن حكام المسلمين في البلاد الإسلامية كلها قد أساؤوا في أمور كثيرة تتعلق بعلاقتهم مع اليهود والنصارى، كما أنه قد أفسدوا في الأموال كثيرا وفرَّطوا في الأمانة تفريطا شديدا، فهذا الوضع السياسي المؤسف والواقع الإقتصادي المظلم وضياع الأمة في متاهات انعدام التربية وسوء الأخلاق تسير بها إلى مسخ الهوية وفسخ الخصائص ونسخ الحقائق هذا موضوع، لكن ما علاقة هذه الأمور التي عمت وطمت بدعوة الإمام المجدد محمد ابن عبد الوهاب الذي كان حريصا على صفاء الولاء ونقاء البراء ومنع التشبه باليهود والنصارى منعا باتا فإذا بَدَّل غيره أو لم يُوفِ من جاء بعده ما ذنب الإمام المجدد؟ ولماذا تحارب دعوته العلمية التي تسلك درب السلف الصالح بدقة تامة والتزام عميق.

فإنني حريص أن أفصل الجانب العلمي عن الجوانب التاريخية والسياسية وأن أبرهن بالحجة على براءة الإمام المجدد ولا يعني هذا أنني أُسَلِّم بما قيل في ذلك كما أنني لا أستطيع نفي الكثير من ذلك، فعلى أهل ذلك البلد أي نجد وما حولها أن يجيبوا عن ذلك فهم أعرف وعندهم من الأدلة والحجج ما يستطيعون بيان ذلك، ونحن ننظر إلى الأدلة والحجج ونتبع الحق لكنه في كل الأحوال وهذا جوهر درسنا أن الإمام المجدد محمد ابن عبد الوهاب ورث علم السلف الصالح وأن الجانب العلمي فيه النقاء كل النقاء والصفاء كل الصفاء وأنه بريء من الأمور التاريخية والسياسية بأرض نجد وما حولها.

يختزل عباد القبور هذه الخلطة العجيبة والفدلكة الفريدة بقولهم “الدولة الوهابية” فيجمعون ما عندهم من مآخذ تاريخية وسياسية يريدون نسبة ذلك إلى الإمام المجدد رحمة الله عليه، مع العلم إنه لا توجد على الإطلاق دولة إسمها “الدولة الوهابية” وإنما يوجد هذا في أذهان عباد القبور يريدون من وراء ذلك أن يُبطلوا الحق الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وعَلَّمَه صحبه الكرام ونقلوه بأمانة كاملة إلى التابعين الأبرار فغرسوه في قلوب الأئمة المهتدين والفقهاء المجتهدين من أصحاب الحديث وأهل الآثار، كما أنه لا يوجد مذهب إسلاميا اسمه المذهب الوهابي البتة إلا في أكاذيب رؤوس الضلال، ولم نسمع قط بشخص يقول عن نفسه إنه وهابي، بل في كتب الشيخ وشروح تلامذته وأعلنه علماء هذا العصر أنهم يتبرؤون من هذه الصفة ولا يقبلون هذا الإسم إطلاقا فلماذا الكذب والإفتراء؟

قلت هذا الكلام ولا علاقة لي إطلاقا بأي جهة ولا دولة ولا مؤسسة ولو علمية البتة ولم أدرس في أي بلد بل درست في بلدي وتعلمت على شيوخ أرضي، وإن كنت قد أحببت الدكتور محمد تقي الدين الهلالي حبا جما وتعلمت منه التوحيد الخالص وبنيت موقفي في الجانب العلمي والجوانب التاريخية والسياسية على يديه رحمه الله ثم توسعت مداركي وكثرت مطالعاتي فوجدت أن قد صدق الخبر الخبر.

وهذا لا يمنع أن أقبل قول المخالف إذا صاحبه الدليل الشرعي المعتبر فنحن بفضل الله ومَنِّه وجوده وكرمه أهلُ إنصاف ندور مع الدليل حيث دار وكل من تعلم الحديث وسلك مسلك أئمته تعلم الإنصاف، ونحن الآن في أجواء من الانفتاح الإيجابي  الذي هو الأخذ والعطاء بالعلم والحوار بالحجة والإقناع بالدليل فها هي قلوبنا مفتوحة لقبول الحجج والبينات وخصوصا في باب المحكمات الذي هو العلم الشرعي والتوحيد الخالص ولزوم السنة واجتناب البدعة والوقوف عند حدود الله لأن الله تعبدنا بمتابعة الدليل الشرعي ولا يخرجنا عن البحث الحديث عن الأمور التاريخية والسياسية لأنها أفعال أشخاص تتعلق بهم في الدنيا والآخرة، وهي أحداث عابرة قد تكون لها تأويلات عدة، وإنما الكُمَّل من الرجال هم الذين يبحثون في القضايا الكلية والأصول العظيمة والأمور الكبيرة والمقاصد الدقيقة والعلوم النافعة فهي باقية لا كأفعال الأشخاص أو الأحداث العابرة.

وفي الختام أعلنها صرخة مُدَوِّية أنه وإن أسقط ابن تيمية بالحق أو بالباطل أو أسقط ابن عبد الوهاب بالحق أو بالباطل فسنظل بتوفيق الله ومعونته على درب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وعلى طريقة أهل الحديث المرضيين نرفض القبورية والخرافة والشعوذة والأباطيل وأن الأضرحة أماكن الشرك الأكبر والكفر الأعظم وأن نتمسك بالتوحيد الخالص في باب الربوبية والأسماء والصفات والإلاهية لأن الحق في تمام الوضوح ومن التزم شروط التوحيد وتخلص من نواقضه لقي الله ببطاقة عظيمة ومن حرم هذه البطاقة كان مع فرعون وهامان وقارون وأُبَيَّ بن خلف، ومن كانت بطاقته مُلَطَّخَة فحسابه على قدر جُرمِه والرب أهل التقوى وأهل المغفرة.

ولو لم يكن في طريقة المحدثين الذين سلكوا مسلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين إلا أنها سَدَّت كل منافذ الشرك وفيها من تعظيم الربوبية وتقديس الألوهية ما هو الأليق بمعنى شهادة لا إله إلا الله لكفى هذا السبيل طهرا وهذه الطريق صفاء.

قال الله تعالى:آل عمران 64النساء 59يونس 32آل عمران 31الأحزاب 21النور 63

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الكرام وصحبه الأخيار.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
حسبنا الله ونعم الوكيل.
وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.
إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

كتبه أبو عبد الرحمان عبد الحميد أبو النعيم غفر الله له ولوالديه والمسلمين.
ليلة الجمعة الثاني والعشرين من ذي القعدة عام سبع وثلاثين وأربع مئة وألف بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم الموافق 26 غشت 2016 م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *